أم رامي تعرف، كسواها، أن سيارات الأجرة العمومية، ذات اللوحات الحمراء، لا تزال متوافرة في المدينة. إلا أن المضاربات من سيارات «الخصوصي» التي تُزيّن باللوحات البيضاء، في ظل انتهاج الدولة بكافة أجهزتها لسياسة «غض النظر»، رمت بأصحاب المهنة بعيداً عنها، وسيطرت على الشارع.
هذه طبعاً ليست مشكلة طرابلس الوحيدة. فالعاصمة الثانية حُرمت من النقل العام المشترك منذ نشأتها، و«اتّكل» أبناؤها على النقل المشترك الخاص فقط. نقلٌ يشبه اسمه إلى حد كبير. فهو «مشتركٌ» إلى درجة تدخّل فيه كل «قبضاي» في المدينة؛ من رجال السياسة، إلى رجال الأمن والمخابرات، وزعران الشوارع. فنهش هؤلاء بنيته الأساسية، وشقوا صفوف نقابته، واحتلوا المواقف المخصصة له، وباتوا يتحكمون في رقاب الفقراء من السائقين.
لم تُزوّد طرابلس يوماً بحافلات نقل تابعة للدولة اللبنانية، أو بترامواي وميكروباصات على غرار تلك التي كانت موجودة في بيروت، يقول رئيس لجنة النقل والسير في بلدية طرابلس عامر الرافعي في حديث مع «الأخبار». يضيف «اقتصر النقل العام في المدينة على محطة القطارات في طرابلس، التي كانت ملكاً للدولة اللبنانية وتعمل على الخطوط الخارجية، أي تصل طرابلس ببيروت، ولبنان بسوريا وتركيا». برأيه، «لم تكن حاجة المدينة إلى النقل العام في عهودها السابقة كما هي اليوم. أُسّست طرابلس في عهد المماليك وفق مخطط مدني يسمح للأهالي بالتنقل سيراً على الأقدام. لكن التطور وتوسع المدينة الأفقي، فضلاً عن التضخم السكاني فيها وما يتبعه من ضيق اقتصادي لدى معظم العائلات، جميعها عوامل تستدعي تفعيل وسائل النقل العام التي تقوم بالأساس على أسعار منخفضة، وتعود بفائض مادي جيد على الدولة، لا سيما أن النقل المشترك الخاص ليس بديلا من النقل العام». ويرد الرافعي السبب في عدم إنجاز الدراسة التي أعدّها مهندسون في وزارة الأشغال في السنوات الأخيرة، لإعادة توزيع باصات للنقل العام على عدد من المواقف على الخطوط العامة في المدينة، إلى أن كلفتها تفوق ما تستطيع تكبّده خزينة الدولة. وأردف ممازحاً «ما نحنا خلص تعودنا، بس يوصل الدور على طرابلس بيبطل في مصاري!».

العاصمة الثانية حُرمت من النقل العام المشترك منذ نشأتها

أمام هذا الواقع، كثرت مواقف النقل الخاص في المدينة. تضاعف عدد سيارات الأجرة. دخلت المحسوبيات على «الخط»، ونشطت المضاربات من سيارات «الخصوصي»، حتى فقدت بلدية طرابلس قدرتها على مراقبة سير العمل. كثرت المواقف غير الشرعية، و«دبّت» الفوضى، إلى أن وصل الأمر إلى درجة غير مسبوقة، واستباح الشارع عدد من الشبيحة المدعومين من زعماء وسياسيين كثر. يفرض هؤلاء خوات على أصحاب السيارات والفانات العمومية. يتعرضون للسائقين بالضرب وتكسير مركباتهم في وضح النهار. كذلك احتلوا عدداً من الأرصفة في المدينة وأنشأوا فيها مواقف غير شرعية، غير آبهين لسطان غير سلطانهم. حتى قائد سرية درك طرابلس العميد بسام الأيوبي أنشأ موقفاً للسيارات والباصات في محلة البحصاص في طرابلس تحت حماية قوى الأمن الداخلي، عرف باسمه «موقف الأيوبي».
الموقف المذكور حديث النشأة. هو عبارة عن مساحة كبيرة يركن فيه عدد من الأشخاص سياراتهم وهم مطمئنون، فعين قوى الأمن ساهرة هناك من السابعة صباحاً حتى السادسة والنصف ليلاً. في المكان حجرة بيضاء كبيرة، كتب على لوحة علقت فوقها «بإشراف قوى الأمن الداخلي ــ محطة البحصاص». الحجرة مكانٌ لاستراحة الركاب والدردشة مع الموجودين، فيها كراس لا يتجاوز عددها عدد أصابع اليد الواحدة. انتدب الأيوبي ورئيس نقابة السائقين في طرابلس شادي السيد، المدعو مصطفى بطيخ لتدبير شؤون الموقف، وخاصة أن الأخير صاحب خبرة واسعة في هذا المجال، فهو كان يملك موقف «حمزة» الشهير في ساحة النجمة قبل زواله.
جميع المنتظرين في الحجرة يؤكدون أن «الأيوبي يسعى إلى تأمين راحة المدينة». أما بطيخ فيستفيض بالشرح: «العميد هدف إلى تخفيف الضغط عن طرابلس، وإراحة السائقين من سياسة فرض الخوات التي تمارس عليهم. الهدف الأساسي من الموقف هو انتقال جميع السيارات والفانات من المواقف داخل طرابلس، للانطلاق من هذا الموقف والعودة إليه». يضيف «التجاوزات ممنوعة هنا من أي نوع كانت. فعناصر قوى الأمن موجودون دائماً». يبقى السؤال لماذا تغيب قوى الأمن الداخلي عن المواقف الأساسية داخل المدينة التي لا يكاد يمر يوم واحد عليها من دون افتعال مشاكل؟ في حين ترابط الأخيرة في موقف لا يتجاوز عدد العاملين فيه حوالى 40 باصاً كبيراً، و40 فاناً، و20 سيارة».
تزداد فداحة المشهد على طول خط الأوتوستراد الدولي. في ساحة عبد الحميد كرامي يختلط الحابل بالنابل. تعج السيارات في المكان، وتكثر المواقف غير المرخصة. على مدخل شارع الجميزات ينادي السائقون على الركاب المتجهين نحو الميناء. على بعد أمتار قليلة، تكثر الفانات الصغيرة التي تركن بعشوائية. ينادي أصحابها على جميع المتجهين إلى بيروت. بالقرب منهم سيارات تقل ركاباً إلى الكورة وضهر العين وزغرتا. لا يفصل بينها وبين الفانات سوى ملالة للجيش اللبناني. وبين هذا وذاك يحجز أصحاب بسطات الكعك بضع أمتار مربعة لهم، يجذبون عبرها الركاب الجياع.


العميد بسام الأيوبي
أنشأ موقفاً في محلة البحصاص

لا يكتفي بعض السائقين برفع شارة «أجرة» على سقف سياراتهم بينما لوحاتها تلمع «بياضاً»، ولا يأبهون لكون مركباتهم تعمل على المازوت لا البنزين، بل يعرضون على الركاب «توصيلة تاكسي»، من طرابلس إلى ضهر العين بستين ألف ليرة!.
قُبالتهم تركن مجموعة من السيارات التي تقل الركاب إلى منطقة أبي سمراء. على الرغم من قرب المسافة بين المنطقتين، «التوصيلة بألفين، ما عاجبك ما تطلعي»، يقول أحمد سائق سيارة «أجرة» تحمل لوحة حمراء مزورة. إلى جانبه يقف أبو راشد. يُعرّف الأخير عن نفسه بأنه «رجل على باب الله، أنا هون بنتبه على السيارات، فهمتي عليّ كيف!». يقف تحت الشمس طيلة النهار، ينظم السير ويساعد أصحاب السيارات على ركنها أمام الرصيف الذي خصته البلدية بعددات رقمية (parck metter)، يضع صاحب السيارة بعض المال في عداد البلدية، وبعضه الآخر في يد أبو راشد. يقوم الأخير بحراسة السيارة. وفي حال تأخر صاحبها أكثر من الوقت المحدد في العداد، يتكفل أبو راشد بمنع موظف البلدية من تكبيلها. كذلك، يقوم الرجل بمنع أصحاب السيارات العمومية «الدوارين» من ركن سياراتهم في المكان لتعبئتها بالركاب من دون أن يدفعوا ما فيه النصيب. خوّة تتراوح بين ألف وأربعة آلاف ليرة، يفرضها أبو راشد.
يكشف الرافعي أن «رئيس بلدية طرابلس نادر الغزال طلب من لجنة السير والمجلس البلدي دراسة طلب قدمه أحد رجال الأمن البارزين، لترخيص موقف ساحة عبد الحميد كرامي. إلا أننا رفضنا، لأن ذلك مخالف للقوانين، علماً بأن لرئيس البلدية الحق في إصدار رخص للمواقف العمومية من دون العودة إلى اللجنة والمجلس معاً».
صعوداً نحو منطقة كرم القلة، المشهد لا يختلف كثيراً. خيمة صغيرة نصبها سائقون فوق جذع شجرة معمرة، ألصقت عليها صورة للوزير فيصل كرامي، جرّدها الزمان من لونها. تحلقوا حولها في «الفيّ» بانتظار ركابهم. الموقف غير مرخص والسيارات كسواها «نمر بيضاء تعمل على المازوت». وعندما حاولنا الاستفسار عن كيفية العمل في المكان، كان الرد طريفاً! خاطبنا أحد السائقين بالقول «بتعرفي إنو مرة صاحب سيارة عندو واسطة عمل حادث سير مع صاحب سيارة تانية كمان عندو واسطة، فطلع الحق على الدركي! إي هون هيك، نفس الشي». أما نزولاً نحو التل، فالمخالفات من نوع آخر. يشرح أبو فادي، صاحب موقف «الكرامة» في ساحة التل: «نحن مسؤولون عن مضاربات «الخصوصي»، لأننا نسمح لهم بالعمل معنا. لكن هناك واقعاً صعباً نعيشه؛ فشراء اللوحة العمومية مكلف جداً».
يحق لأبو فادي أن يستقبل في موقفه ثماني سيارت فقط. لكنه كغيره، يحشر في المكان أضعافاً منها. في موقفه تعمل 35 سيارة معظمها لا يملك لوحات عمومية. يتقاضى أبو فادي أجراً عن كل واحدة ألفي ليرة لبنانية يومياً. وهو ملزم بأن يدفع لبلدية طرابلس أجراً قدره 600 ألف ليرة في السنة بدل رخصة الموقف.
في موقف الجامعة اللبنانية قرب ساحة الكورة، تعمل حوالى 80 سيارة، بينما يحق للموقف تشغيل 10 فقط. يدفع أصحابها ما يقارب 12 ألف ليرة في اليوم الواحد، «كوميسيون» لصاحب الرخصة. يقول أحدهم «الواحد بيشتغل بالمحل يلي في عالم أوادم. هلق عم يغلى شوي، بس على القليلة ما حدا بيتعرضلنا على الطريق». في موقف «البيغ بايت» الحال مشابهة. فانات نقل من طرابلس إلى بيروت، يدفع أصحابها ما يقارب 15 ألف ليرة في اليوم، فضلاً عن أنه لا يحق لهم الخروج من الكاراج بنقلة جديدة إن لم يعودوا قبل الموعد المحدد لهم سلفاً.
في طلعة الرفاعية خطان مستقيمان. على اليمين موقف للسيارات العمومية مرخص من بلدية طرابلس تعمل فيه مجموعة من السائقين. في محاذاتهم أنشأت مجموعة من «الشبيحة» موقفاً آخر، ينقل الركاب إلى المناطق عينها التي يعمل عليها سائقو الخط النظامي، وباشروا فرض خوات على كل سائق تسوّل له نفسه أن ينقل ركاباً من المكان الذي يسيطرون عليه. شبان يزنرون خصورهم بسكاكين ومسدسات حربية. يروي «كمال»، أحد السائقين القدامى في طلعة الرفاعية، ما حدث معه. يقول «طول عمري إشتغل هون، بس من وقت ما بلشت الزعرنات وقفنا. صاروا كل ما بدي طلّع راكب معي بدن ياخدو أجاروا. يعني يلي بيعطيني ياه الراكب برجع أنا بعطي للزعران وإلا بيكسروا السيارة، والحمدلله دولة ما في». يردّ صديقه بصوت خافت وهو يحتمي به «هول من حصة اللواء ريفي». الأمر ليس غريباً، فصورة الوزير «العادل» مرفوعة في المكان، وملصقة على زجاج عدد من السيارات أيضاً.
حالات كثيرة مماثلة لحالة كمال، لا بل «أضرب منها». يقول بحسرة «في صديق لإلي كسرولو سيارتو وحرقوها، وفي واحد تشكى عليهم لمخفر أبو سمرا. قام فات هو على الحبس والأزعر طلع براءة». وليس السائقون وحدهم هم الضحية، بل الركاب أيضاً. آلاء كبارة، إحدى الشابات التي تعرضت لمضايقات من «شبيحة طلعة الرفاعية»، تقول في حديث إلى «الأخبار»: «وقفت على جانب الطريق أنتظر أن تمر سيارة من الموقف الرسمي، إلى أن اقترب مني أحدهم وقال لي «تعي اركبي معنا، هون أحسنلك». فقلت له «لا أريد. أنا بطلع من هون». فردّ بعصبيّة «مش على ذوقك، بدّك تطلعي من هيدا الموقف أو ما توقفي بهالمنطقة». عندها، ساد بيننا تلاسن حاد، وغادرت المكان على الفور».
ومن التل نحو إشارة عزمي «التشبيح على عينك يا دركي»، يقول أحمد المرعبي، سائق أحد الفانات. «صارت عملية فرض الخوات على الفانات وأصحاب السيارات العمومية موضة. ممنوع يطلع معك راكب عن الطريق إلا بدك تدفعي حقو». معاناة السائقين واحدة، «لأن الكل عم يطلع بخسارة»، خصوصاً أن التعرفة المفروضة على الراكب من طرابلس إلى المنية ألف ليرة، ومن طرابلس إلى حلبا ألفي ليرة. وعندما يُجبر السائقون على دفع ألف ليرة «على كل راس» للشبيحة، لا يكفي ما يجنونه ثمن أتعابهم لربع يوم عمل، فضلاً عن الإهانات اللفظية التي يتعرضون لها.
ربيع كان واحداً من هؤلاء. يسرد حكايته قائلاً «كنت عائداً من بيروت، وفي الفان عددٌ لا بأس به من المتجهين نحو عكار. فقلت لنفسي بكمّل وبطلّع معي ركاب، هاي باب رزقي بالنهاية، ومافي ولا قانون بيمنعني طلّع ركاب من محل الفلاني أو المحل العلتاني». وفجأة ركنت الفان على يمين الطريق قبالة إشارة عزمي، ليصعد أحدهم. وإذ يتقدم مني «شبيح» متل الوحش، وينهال عليّ بوابل من السباب أمام الركاب. قال لي «إذا إسا مرة بتوقف هون بدي إعمل وسوّي بأمك! حاولت أن أجيبه، فرفع كفه وهددني بالقتل. فررت من المكان مسرعاً، لأتفادى العراك مع أزعر يبدو أنه مدعوم من أحد السياسيين، لأنه لو لم يكن كذلك، لما استطاع التصرف بهذه الطريقة، على مرأى من القوى الأمنية».