لا تختلف «صباحات» منطقة الدورة بعضها عن بعض. الضجة نفسها تعمّ المكان في كل يوم، لا سيما بين الثامنة صباحاً والخامسة من بعد الظهر. أوقات الذروة. حين تشتد زحمة السير، تحبس أنفاس الأهالي، حتى تكاد تهلكهم. على جسر الدورة الشهير زحمة سير لا توصف. ومن تحته فوضى تتسبب بها في معظم الأحيان عشوائية فانات النقل الخاص التي تقل الركاب إلى بيروت، والباصات الكبيرة القادمة من الشمال، التي تتخذ من الأرصفة مواقف لتركن وتستريح.
«يحتار» الركاب في مستديرة الدورة إلى أي جهة يلتفتون، يقول نسيم. «في كل زاوية موقف. سائقو سيارات وباصات وفانات ينادون عليك. قد تخال نفسك للحظة أهم رجل في العالم والكل بدّو رضاك!». إلا أن ما يجهله نسيم وسواه، هو أن جميع المواقف الحالية القائمة حول مستديرة الدورة غير قانونية، باستثناء الموقف التابع لنقابة سائقي السيارات العمومية في لبنان، التي يقع مكتبها قبالة الموقف المذكور. تقف السيارات بعضها قرب بعض، بانتظار اكتمال عدد ركابها. سيارات عمومية نظامية بأغلبها، تقلّ الركاب إلى عدد كبير من المناطق اللبنانية: زحلة، طرابلس، جونية، جبيل، عجلتون، الحمرا، فرن الشباك، عين الرمانة، بكفيا. وهي بذلك تنجز المهمات التي كانت تقوم بها باصات النقل العام المشترك التابعة للدولة اللبنانية، بعدما شُلّت مصلحة النقل العام المشترك بفعل السياسات الاقتصادية الهادفة إلى خصخصة هذا القطاع، والتي اعتمدتها الحكومات المتعاقبة منذ عام 1993.

«قبضايات» يحملون عصياً يتمركزون
على طول الخط المؤدي إلى بيروت

يذكر رئيس النقابة العامة لسائقي السيارات العمومية مروان فياض، في حديث إلى «الأخبار»، كيف كانت «أوتوبيسات» النقل التابعة للدولة «تغزل» في المكان. يقول «حيث تركن سيارات السائقين حالياً، كانت تركن سابقاً باصات النقل العام. كان اللبنانيون يتهافتون لحجز مقاعد لهم فيها. من كل المناطق يلتقون هنا؛ العائدون إلى طرابلس، والذاهبون إلى زحلة، والمتجهون إلى المتن. ياما في ناس تعرفت على بعضها هون بنص هالساحة، حتى إنو العشاق كانوا يتواعدوا للقاء أمام أوتوبيسات الدورة». يضيف «مع الوقت بدأت مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك تنهار. باتت عاجزة عن تأمين الصيانة لآلياتها، فقل عددها، ولم تعد قادرة على تلبية حاجات الناس. تحول المكان إلى موقف سيارات عمومية خاصة، فيما استبيحت الساحة المقابلة من قبل فانات نقل خاص تعمل على خطّي الدورة ــ الكولا والدورة ــ طريق المطار».
يردّ رئيس نقابة ومستخدمي النقل المشترك في مصلحة سكك الحديد ريمون فلفلي سبب انهيار مؤسسة النقل العام إلى «طمع بعض السياسيين بأملاكها. وما التجاوزات الحاصلة على طول الخط الساحلي من بيروت إلى جونية فطرابلس والتي تقدر بنحو ألفي مخالفة وتعدّ على أملاك الدولة بغطاء سياسي واضح، إلا برهان على سعي البعض إلى ضرب كيان هذه المؤسسة. وكانت خطة قد أُقرّت في السنوات السابقة تتوحد من خلالها جهود وزارة الداخلية والدفاع لمؤازرة المؤسسة على إزالة المخالفات، لكنها بقيت حبراً على ورق». ويقول إن «مصلحة النقل المشترك مؤسسة غير ربحية، هي خدمة تقدمها الدولة اللبنانية إلى مواطنيها، مثل الخدمات الصحية والشؤون الاجتماعية. قُلّصت هذه التقديمات في محلة الدورة إلى درجة يعمل على نقل الركاب من الدورة إلى بعبدات باصان فقط، وثلاثة من الدورة إلى بعبدا، وواحد فقط من الدورة إلى طرابلس».
وجدت سيارات وباصات النقل الخاص في تقهقر مصلحة النقل العام المشترك فرصة سانحة للسيطرة على الشارع. ففي الدورة، وتحدداً بالقرب من بنك فدرال لبنان، مجموعة من السائقين يحتلون الرصيف، ويخضعون لإمرة عدد من الزعران. إن طالبتهم بالابتعاد عن الرصيف، يبرزون بوجهك بطاقة وقوف حصلوا عليها من مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك، ويقولون كلّو نظامي!». يعرف هؤلاء أن البطاقة المذكورة مخصصة لمواقف العموم وليست لاحتلال الرصيف. ويصدف أثناء تحدثهم عن «النظام» أن يمر رجل عجوز غاضب. يلتفت نحوهم بنظرة قاسية. ثم يكمل سيره وهو يهمس «ليك الدركي شو مبسوط. هو نحنا منفهم القانون غلط: بالأساس الرصيف للسيارات والطريق للمشي». الدركي نفسه يختفي من ساحة الدورة عند الرابعة عصراً. يبدأ الفلتان العلني. مجموعة من «القبضايات» تحمل عصياً. تتمركز على طول الخط المؤدي إلى بيروت. توزع المجموعة المؤلفة من خمسة شبان على الفانات المتجهة نحو بيروت، وتحديداً نحو الكولا، طريق المطار، ومحطة شارل حلو. كل شاب يتسلم باصاً. ينادي له على الركاب، ويحصل على المال. أما من يمتنع عن الدفع فيكون حسابه قاسياً جداً. الحال اعتادها أصحاب باصات النقل الخاص، في حين لا يزال يقاومها سائقو باصات النقل العام الذين ملّوا حال المؤسسة من أساسها. يتذمر جورج، وهو أحد السائقين الذين يعملون بشكل تعاقدي في مصلحة النقل المشترك منذ سنين طويلة، قائلاً «نحنا مش مسجلين بالملاك وحالتنا الصحية سيئة، ومع هيك بدنا نتحمل بعد زعرنات على الطريق. فعلاً إنو ما في أحلى من لبنان!».
في نهر الموت المعاناة مشابهة. باصات النقل العام نادرة، معظمها تنقل الركاب إلى بكفيا والمتن. أما تلك التي خصصت للنقل العام إلى جونية وجبيل فتوقفت. يشير فلفلي إلى أنه «تمت الاستعانة بواحد من الباصات لخدمة النقل على خط في البقاع أُعيد افتتاحه منذ مدة قصيرة، بعد توقف دام ثلاث سنوات في تلك المنطقة. أما الباص الثاني فأصيب بعطل تقني وتوقف حالياً عن العمل». تحتشد في المكان باصات النقل الخاص، لا سيما العاملة على خطّي جونية ــ جبيل وطرابلس. الإشكالات الأمنية نادرة في نهر الموت، أما بطلها الدائم فهو حسن. الشاب «مساعد الباصات». بمجرد أن تطل ساق أحدهم من بعيد حتى يركض لاستقباله. أمسى الشاب العكاري ذائع الصيت في المنطقة. «ضرب صحبة» جميع عناصر قوى الأمن الداخلي الدراجين، كذلك نال ثقة سائقي الفانات جميعاً، فتراه يمازحهم ويساير معظمهم في أوقات الضيق. فلا يأخذ «كلفة أتعابه» إن كان عدد الركاب في الباص قليلاً. والأهم أن حسن بات دليل طالبات الجامعات للصعود مع سائقين «مهذبين وما بيسرعوا على الطريق» بحسب إحدى الفتيات.
المضاربات في نهر الموت من اختصاص سيارات الأجرة. على جانبي الجسر الحديدي موقفان لسائقي السيارات شبه العمومية، نظراً إلى أن معظم السيارات لا تحمل لوحات عمومية حمراء. المواقف المذكورة غير مرخصة، لا بل تحتل الأرصفة على الجانبين. غالباً ما يقع عدد كبير من المواطنين ضحية غش هؤلاء. يحفظون الوجوه التي ترتاد محطة نهر الموت بشكل دائم، فيلتزمون معهم بالتعرفة المفروضة للـ«سرفيس»، أي ألفي ليرة لبنانية. أما الغرباء فهم دائماً ضحية. تقول دلال، إحدى اللواتي وقعن في فخ «التاكسي»، إنها «دفعت 10 آلاف ليرة ثمن توصيلة من نهر الموت إلى مبنى كلية العلوم في الفنار، في اليوم الأول لزيارتي الجامعة. وعندما جئت أسأل صديقاتي عن سبب هذا الغلاء الفاحش في بيروت، جاءني الرد «هيدا مش غلا بس إنت غبية!». على الأرجح ليس الغباء سبب وقوع دلال في شباك السائقين، بل انعدام المراقبة وضبط الأسعار، فضلاً عن الانهيار التدريجي لكافة وسائل النقل العام التي بات المواطن اللبناني بأمس الحاجة إلى وجودها.