لا تقتصر خلفيّة توصيف رئيس أركان جيش العدو، أفيف كوخافي، المرحلة التي تمرّ بها إسرائيل، بأنها «نقطة زمنيّة حاسمة»، على البعد النووي؛ إذ يقارب كيان الاحتلال التهديد الذي تشكّله الجمهورية الإسلامية الإيرانية بالنسبة له، وفق رؤية شاملة تشمل الأبعاد النووية، العلمية، الصاروخية والإقليمية. وفي تقييم إجمالي، يعود استمرار ذلك التهديد وتعاظمه إلى فشل خياراتٍ ورهانات سابقة هدفت إلى الحؤول دون وصول إيران إلى ما وصلت إليه، لكن الأخيرة فاجأت أعداءها بصمودها وتطوُّرها، وأرست معادلات ووقائع باتت ترى فيها تل أبيب خطراً استراتيجياً على أمنها القومي، يؤسّس لخطر وجودي مستقبلاً.على المستوى النووي، نجحت إيران في تحقيق قفزات نوعية حوّلتها إلى دولة عتبة، وفق ما يؤكد رئيس الاستخبارات العسكرية السابق، اللواء تامير هايمن. لكن المتغيّر الأخير، المتمثّل في تفعيل منشأة فوردو الأكثر تحصيناً من أيّ هجمات صاروخية وجويّة، عبر رفْع مستوى التخصيب فيها إلى 60%، يستبطن، وفق المعايير الإسرائيلية، رسائلَ ومؤشّرات إلى أن طهران عازمة على المضيّ في هذا المسار أفقيّاً وعموديّاً، ولن تردعها كلّ رسائل التهديد الأميركية والإسرائيلية عن خياراتها، وصولاً إلى استعدادها للتصدّي لأيّ سيناريوات عدوانية ضدّها. وفي الموازاة، حقَّقت إيران أيضاً تطوّراً نوعيّاً إضافياً على مستوى برنامجها الصاروخي، تَمثَّل في نجاحها في إطلاق صاروخ «قائم 100» الحامل للأقمار الاصطناعية، وكشْفها عن صاروخ فرط صوتي من شأنه أن يغيّر، إلى جانب كلّ أنواع الأسلحة الدقيقة، الكثير من الحسابات الإسرائيلية، سواءً في ما يتّصل بمعادلة الكلفة والجدوى في أيّ خيارات عسكرية مفترَضة ضدّ البرنامج النووي الإيراني، أو على مستوى تعاظُم التهديدات المحدقة بعمْق الكيان الاستراتيجي. وعلى المستوى الإقليمي، أَثبتت طهران أنها لن تحيد عن ثوابتها المتّصلة بفلسطين والمقاومة ومواجهة الهيمنة الأميركية، وستُواصل دعْم حلفائها، وفي مقدّمهم «حزب الله»، والارتقاء بقدراتهم.
على أنه استجدّ، في هذا الوقت، متغيّر إضافي ترى فيه تل أبيب سبباً لازدياد المخاطر، وهو احتدام الصراع الدولي حول طبيعة النظام العالمي الجديد، الذي يتبلور على أنقاض الأحادية الأميركية التي سادت منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. وتتبلور، في ذلك السياق، معادلات جديدة في العلاقات بين طهران وكلّ من موسكو وبكين، لا تُخفي إسرائيل تخوّفها من تداعياتها على موقف إيران التفاوضي في القضيّة النووية، وتأثيرها في انفكاك الطوق الذي تعمل الولايات المتحدة على إحكامه ضدّ الأخيرة. إلّا أن عناصر قوّة الجمهورية الإسلامية لا تقتصر، من وُجهة النظر الإسرائيلية، على ما تقدَّم، وإنّما تشمل أيضاً وتيرة تطوّر إيران العلمي، وكلّ ما يسهم في تعزيز صمودها الاقتصادي، الذي يُقوِّض مفاعيل الحرب الاقتصادية ضدّها، باعتبارها الرهان الأساسي البديل عن الخيار العسكري المباشر الذي دونه الكثير من القيود والأثمان التي حالت حتى الآن دون انتهاجه. أيضاً، تخشى تل أبيب من أن تُعزّز كلّ هذه العوامل مجتمعةً، اندفاعة إيران وحلفائها في المنطقة.
نجحت إيران في تحقيق قفزات نوعية حوّلتها إلى دولة عتبة نووية


وفي مواجهة تلك المتغيّرات، تأتي مساعي واشنطن ومعها تل أبيب، في اجتراح خيارات بديلة إضافية في مواجهة طهران، ومن ضمنها ما تشهده المرحلة الحالية، إلى جانب الحرب الاقتصادية، من دعْم وتحريك للحركات الانفصالية، وتشجيع على العمليات الأمنية والتخريبية، إلى جانب حملات التحريض التي تهدف إلى تأليب الشعب الإيراني على النظام الإسلامي. لكن المشكلة الماثلة أمام إسرائيل والولايات المتحدة هنا، عبَّر عنها كوخافي لنظيره الأميركي، مارك ميلي، حين قال له إن «إيران واقعة تحت ضغوطٍ كثيرة، اقتصادية، عسكرية وداخلية، فيما تُواصل دفْع المشروع النووي»، في إشارة إلى أن الضغوط التي تتعرّض لها لم تردعْها عن خياراتها النووية، بل دفعتْها إلى بلورة معادلةِ ردٍّ على «الهجمات» التي تتعرّض لها؛ إذ ردّت على قرار «الوكالة الدولية للطاقة الذرية» إدانتها برفع مستوى تخصيب اليورانيوم ونصْب المزيد من أجهزة الطرد المركزي المتطوّرة، ومهدّت أيضاً لخطوات لاحقة في الاتّجاه نفسه، واضعةً الدول العظمى أمام خياريَن: إمّا التسليم بواقعها النووي والاستراتيجي، أو الإقدام على خطوات تردّ عليها هي بقفزات نووية إلى الأمام.
وفرضت وتيرة تلك التطوّرات المتسارعة على رئيس أركان جيش العدو، تكثيف التشاور مع الأميركيين؛ فالتقى كبار مسؤولي المؤسّسة الأمنية والعسكرية في «البنتاغون» وفي البيت الأبيض، ومستشار الأمن القومي، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية، في محاولة لتوحيد «صورة الوضع» الاستخباري والعملياتي إزاء إيران والمنطقة، كمقدّمة لإعداد خيارات عمليّاتية مشتركة. وفي الإطار نفسه، يأتي حديث كوخافي عن أن «الجيش يدفع حثيثاً مجمل خططه العملياتية ضدّ إيران»، كاشفاً عن التقدير الاستراتيجي الذي تتبنّاه المؤسّسة العسكرية بالقول إن إسرائيل «في نقطة زمنية حسّاسة»، الأمر الذي يفرض تحضير سيناريوات أميركية - إسرائيلية مشتركة كجزء من رسائل الردع، وسعياً لرفع مستوى الجاهزية في مواجهة أيّ تحوّلات دراماتيكية مفاجئة، إضافة إلى محاولة التأثير على أصحاب القرار في طهران ووضع حدّ لخطواتهم التصاعدية. وإذ يبدو واضحاً أن ذلك المسعى ينبع من إدراك إسرائيل قصورها عن ردْع إيران على المستوى الاستراتيجي، أو خوْض مواجهة عسكرية واسعة معها وتحديداً بعد التحوّل الذي استجدّ في معادلات القوّة الإقليمية، فقد أقرّ كوخافي نفسه بهذه الحقيقة، بإعلانه أنه «من أجل تحسين مواجهة التحدّيات الإقليمية، في الفترة القريبة، سيتمّ توسيع النشاط المشترك مع القيادة الوسطى في الجيش الأميركي بصورة مهمّة»، مكرّراً تأكيد ما تُجمع عليه المؤسّستان السياسية والأمنية في كيان العدو: «التعاون العميق مع الولايات المتحدة يشكّل ركيزة أساسية لأمننا القومي». ضمن الإطار نفسه، يندرج ما أعلنه منسّق مجلس الأمن القومي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بريت ماكغورك، في مؤتمر «حوار المنامة» المنتهي للتوّ، من أن الولايات المتحدة «تعمل الآن بنشاط على بناء بنية دفاعية جوّية وبحرية متكاملة في هذه المنطقة»، وأن «هناك مزايا نسبيّة في تعزيز الردع، وتقليل المخاطر، وإرساء أسس طويلة الأجل لموقف قوي للولايات المتحدة الأميركية، التي ستعزّز شراكتها مع الدول الحليفة».
مع هذا، تعاني تل أبيب من حقيقة أن موقف واشنطن وأداءها لا يلبّيان طموحها إلى الخيارات الواجب تبنّيها في هذه المرحلة ضدّ إيران، بخاصّة في ما يتعلّق بتلك التي تنطوي على إمكانية التورّط في مواجهة عسكرية معها، وهو طموح لا تخفيه إسرائيل، وإنْ كانت تحرص على صياغته بتعابير مهنية محايدة. في المقابل، تشترك إسرائيل والولايات المتحدة في الكثير من معالم الرؤية التي تتّصل بالتهديد الذي تشكّله السياسات الإيرانية على الكيان، وعلى الهيمنة الأميركية في المنطقة. ولذلك، تتبنّيان خيارات عدوانية مُحدَّدة ومضبوطة (بعدم التورّط العسكري المباشر)، وتدفعان نحو بلورة طوْق إقليمي دفاعي وعسكري بهدف فرملة الاندفاعة الإيرانية.