قبل نحو ثماني سنوات، أفرج الكاتب والباحث اللبناني بدر الحاج عن كتاب «بيروت ضوء على ورق 1850ــ 1915» («دار كتب للنشر») الذي راودته فكرة إصداره بعدما راكم في مجموعته الخاصة صوراً غير معروفة سابقاً التُقطت في بيروت منذ مطلع خمسينيات القرن التاسع عشر وحتى العقد الأوّل من القرن العشرين. خلال تلك المرحلة، حدثت تطوّرات جذرية في المدينة على الأصعدة كافة، واحتلّت «ست الدنيا» المركز الأوّل لإنتاج الصور الشمسية في المنطقة. إذ أقام فيها المصوّرون الأجانب، وافتتحوا استديوات خاصة بهم وأغرقوا الأسواق العربية بإنتاجهم.في هذا الكتاب، لم يكتف الحاج بالكشف عمّا توافر لديه من موادّ لإلقاء مزيد من الأضواء على تطوّر المدينة العمراني، بل قدّم أيضاً تحليلاً لخلفيات تلك الظاهرة ورؤية لواقع الإنتاج الفوتوغرافي في تلك الفترة مفنّداً محتواه وبنيته، من دون أن يغفل التطرّق إلى ارتباط ذلك الإنتاج بالرؤية الاستشراقية لبلادنا التي تميّز بها إنتاج معظم المصوّرين والكتّاب والرسّامين الغربيين.

باحة «خان بيروت» (مصوّر مجهول، حوالى عام 1891)


لوحة بالألوان المائية تظهر إلى اليمين برج الشلفون الذي هُدم عقب زيارة الراهبة كلودين جيلاس إلى بيروت في عام 1848، ليبنى في موقعه دير راهبات العازاريات. وحلّ مكان الدير أيضاً مبنى العازارية المعروف في عام 1955 (بنجامان ماري، كانون الثاني 1845).

من خلال هذه الصور الغنية، يدرك القارئ أنّ بيروت الأمس انتهت ولا علاقة لها بما هي عليه اليوم، إذ «تمّ بنجاح تدمير نسيجها العمراني المتناسق بشكل شبه كامل»، وفق ما يؤكّد الحاج لـ «الأخبار»، مشدداً في الوقت نفسه على أنّ هذا التدمير «ممنهجاً».
بعد إزاحة الستار عن هذا الكتاب، واصل بدر الحاج مراكمة الصور والخرائط والوثائق المرتبطة بالعاصمة اللبنانية، بالتوازي مع اقتناء متحف «نابو» مجموعةً نادرةً من صور الفرنسي لويس فين (1831 ــ 1896) العائدة إلى ستينيات القرن التاسع عشر أثناء إقامته في بيروت. شكّلت فترة الإغلاق التي فرضتها الأزمة الصحية العالمية فرصة مناسبة للعمل على مشروع بحثي جديد، توضع خلاصته في النسخة الإنكليزية من العمل السابق ويحمل اسم Beirut 1840-1918/ A Visual and Descriptive Portrait («دار كتب» ومتحف «نابو»)، بالشراكة مع السفير السابق سمير مبارك وبمساهمة مؤسّس ورئيس «جمعية تراث بيروت» سهيل منيمنة. العمل المقسّم إلى مجلّدَيْن يوثّق ويختصر تاريخ التصوير الفوتوغرافي في العاصمة اللبنانية مع أوائل المصوّرين الذين زاروها في تلك الحقبة. وتزامن إطلاق الكتاب الجديد مع افتتاح معرض «بيروت 1840 ــ 1918 صور وخرائط» المستمرّ في «متحف نابو» (الهري) لغاية 31 أيّار (مايو) 2023. يهدف الحدث إلى التذكير بـ «بيروت كما كانت» والحثّ على «المحافظة على ما تبقّى والنهوض مجدداً»، من خلال مجموعة مختارة من الصور الفوتوغرافية والخرائط عن بيروت، بعضها يُنشر للمرّة الأولى، وتمتدّ من عام 1840 ولغاية نهاية الحرب العالمية الأولى. هذا فضلاً عن لوحتَيْن بانوراميتَيْن متفرّدتَيْن، رسمهما الديبلوماسي البلجيكي والفنان الهاوي وعالم النبات بنجامان ماري بالألوان المائية وتعودان إلى عام 1845.

باعة البرتقال في المدينة القديمة (مصوّر مجهول، حوالي العام 1900)


من اليمين: القلعة البرية وبرج البحر (مصوّر مجهول ــ حوالي عام 1885)

كما يوثّق المعرض «ما أمكننا من اقتنائه أو الحصول عليه من صور شمسيّة موزّعة في مجموعات خاصة، أو في مكتبات عمومية، ومتاحف، إلى جانب مجموعة «نابو» الخاصة»، وفق ما يؤكّد بدر الحاج في مقدّمة الحدث. إلى جانب صور فين، وخصوصاً مشاهد بيروت البانورامية غير المسبوقة والصور الشخصية لوجهاء أُسَرْ جبل لبنان الإقطاعية، اعتمد المعرض على صور للمستشرق الفرنسي هنري سوفير (1831 ــ 1896) التي التقطتها في الفترة نفسها حين خدم في القنصلية الفرنسية متنقّلاً بين بيروت ودمشق. ومن بين المصوّرين الهواة الذين استعان بهم المعرض أيضاً، هناك ماكس فون أوبنهايم (1860 ــ 1946) الذي قد تكون صوره للمدينة القديمة في أواخر القرن التاسع عشر الشاهد الوحيد على تلك المنطقة من بيروت التي أزيلت بشكل كامل في إطار مشروع تركي لتوسيع الشوارع. وبالإضافة إلى هذا المستشرق الألماني، نذكر أيضاً: ثيودور وهونوري لوف، تانكراد دوما، أسرة بونفيس (فيليكس، زوجته ليدي ونجله أدريان)، جان-باتيست شارلييه، جول ليند وسواهم.
وعلى خطٍ موازٍ، يبدو لافتاً في الكتاب الصادر في مناسبة إقامة المعرض، تخصيص فصل كامل للحديث عن أوّل من أدخل فنّ التصوير إلى بيروت: لويس صابونجي (1838 ــ 1931).

الجزء الجنوبي من ساحة البرج بمواجهة الشرق؛ في المقدمة مقهى القزاز وشارع الأمير بشير (هيبولايت أرنو، حوالي العام 1885).


المرفأ، إلى اليسار القلعة البحرية (برج البحر)، وفي الوسط برج برقوق وإلى اليمين القلعة البرية (جان-باتيست شارلييه ــ 1860)

على الرغم من أزمة النشر العالمية والكلفة العالية لإنجاز كتاب مماثل، أصرّ بدر الحاج على المضي قدماً في مشروعه الذي يتمتّع بمكانة كبرى بالنسبة إليه على الصعيد الشخصي. بعد النسخة العربية من هذا العمل وكتابَيْن آخرين عن الشام («دمشق: صور من الماضي 1840-1918») والقدس («القدس 1854: التصوير والآثار والاستعمار»)، تأكّد الحاج من أنّه «لا أحد يقرأ بالعربية، وأنّ اعتماد اللغة الإنكليزية يمنح العمل فرصاً أكبر للانتشار».
«نظرات على بيروت: 160 سنة من الرسوم 1800 – 1960» هو عنوان المعرض الذي نظّمه سمير مبارك في «متحف سرسق» عام 2015، وضمّ أكثر من 200 عمل فني (لوحات زيتية ومائية، صور، رسومات، منحوتات) رصدت تطوّر بيروت التاريخي. هذه ليست المرّة التي يخوض فيها السفير اللبناني تجربة فنية مرتبطة بالعاصمة اللبنانية.
يستند العمل إلى صور وخرائط ووثائق قيّمة، بعضها يُنشر للمرّة الأولى


«حين فاتحني بدر الحاج بموضوع مشروعه الجديد، اقترحت أن تترافق الصور مع نصوص بعيدة عن المألوف». هذا ما أكده مبارك لنا، موضحاً أنّه أراد تقديم «رسم لبيروت» عبر كتب رحّالة وحجّاج مرّوا بها عبر السنين. إصدارات كثيرة وغنية وبلغات عدّة موجودة في مكتبته الخاصة.
مبارك الذي استعان أحياناً بمترجمين محترفين لدى الغوص في محتوى الكتب خلال فترة الحجر الصحّي أثناء جائحة كورونا، يعتقد أنّ Beirut 1840-1918/ A Visual and Descriptive Portrait حقّق إنجازاً كبيراً لناحية تشخيص بيروت القديمة «التي لم يبق منها الكثير».
لا ينفصل العمل على تحديد المواقع التي تظهرها الصور، عن شغف سهيل منيمنة بالتراث والثقافة، وخصوصاً ما يتعلّق منهما بمدينته: «يكتسب الكتاب والمعرض أهمية قصوى نظراً إلى عاملين أساسيين: الأوّل احتواؤهما على صور عبر مسبوقة أبداً موجودة ضمن مجموعات خاصة تمّ الاستحواذ عليها، بالإضافة إلى الإضاءة على مَن صوّروا بيروت مع بداية التصوير الفوتوغرافي. أوّل صورة التقطت للمدينة عام 1840 موجودة فيهما مثلاً!»، يقول منيمنة لـ «الأخبار». ويضيف أنّ هذا البحث المعمّق نجح في «التوثيق لمرحلة مهمّة من تاريخ بيروت»، مشيراً في الوقت نفسه إلى المساعدة التي تلقاها في عمله من شخص يشاركه شغفه نفسه، وهو جيرار مارتايان.

الكتاب المقسّم إلى مجلّدَيْن يوثّق ويختصر تاريخ التصوير الفوتوغرافي في بيروت

الاشتراك في مثل هذا المشروع «يعني لي كثيراً، وخصوصاً لناحية استرجاع الذاكرة والبحث عن تراثنا الذي يشكّل هويّتنا... اليوم نحن في أمسّ الحاجة للهوية والثقافة من أجل مقاومة الفساد السياسي... ونحن نحاول باستمرار تعريف الشباب على قيمة هذا التراث». «يا ضيعانك يا بيروت». جملة شهيرة قالها «شاعر الشعب» عمر الزعنّي عام 1938، تختصر سوء الحال الذي آلت إليه العاصمة اللبنانية على أصعدة مختلفة. جملة يجد متصفّح كتابBeirut 1840-1918/ A Visual and Descriptive Portrait نفسه يردّدها فيما يقع نظره على مشاهد ساحرة لمدينة لم تعد موجودة. مبانٍ بطبقة واحدة، شُيّد معظمها بالحجر الرملي (كان يميّز غالبية مدن الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسّط) خارج سور المدينة القديمة، محاطة بحدائق وأحواض مياه ونوافير. تناسق عمراني واضح استحال سراباً وذكريات سجّلتها عدسات المصوّرين، بعد الخراب الذي أحدثه أبناء البلد على مراحل مختلفة، خصوصاً خلال الحرب الأهلية ومن ثمّ التغوّل العمراني. لنجد أنفسنا اليوم أمام مدينة خسرت روحها أمام ناطحات السحاب وغابات الإسمنت!

* معرض «بيروت 1840 ــ 1918 صور وخرائط»: لغاية 31 أيّار (مايو) 2023 ــ من الأربعاء إلى الأحد ــ من الساعة التاسعة صباحاً لغاية السادسة مساءً ــ «متحف نابو» (الهري ــ شمال لبنان) ـ للاستعلام: 06/541941 أو 70/107504 أو [email protected]