لا تخلو انتخابات الإفتاء في عكار من السياسة والحسابات الخاصة بترتيب البيت السني، وخصوصاً بعد التشتت الذي أصاب الطائفة عقب اعتكاف الرئيس سعد الحريري والانتخابات الأخيرة التي أظهرت أن لا ضابط إيقاع للسنّة، وهو ما عكسته كثرة الترشيحات وتشتّت الصوت السنّي الذي توزع على لوائح مختلفة عجزت غالبيتها عن تأمين الحاصل. ومع إقفال باب الترشيحات على سبعة مرشحين هم: أسامة الرفاعي، زيد زكريا، ناجي علوش، عبد الرحمن الرفاعي، زيد كيلاني، حسن البستاني ومحمد عبد القادر، تنحصر المنافسة بين المفتيين السابقين الرفاعي وزكريا.في المقابل، سيكون الاستحقاق مناسبة لتصفية الحسابات. إذ يعمل النائب وليد البعريني، بخلاف النائبين محمد يحيى ومحمد سليمان على التدخل بشكل علني عبر دعم الرفاعي على حساب ابن بلدته زكريا، وهو ما ستكون له تداعيات سلبية على العلاقة بين آل البعريني وآل زكريا (أكبر عائلات فنيدق)، فضلاً عن فك الارتباط بين البعريني ومنسّق عام تيار المستقبل رئيس اتحاد بلديات جرد القيطع عبد الإله زكريا، بعدما اعتادا خوض كل الاستحقاقات السياسية والمحلية كتفاً الى كتف.
يؤكد عدد من أفراد الهيئة الناخبة أن قرار البعريني «كيدي، وهو يسعى إلى تحجيم ابن بلدته كردّ فعل على نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة، بعد دعم المفتي زكريا لقوى التغيير»، وتحديداً المرشح محمد بدرا (حصد 9302 من الأصوات مقابل 11099 صوتاً للبعريني الذي حلّ أخيراً بعد يحيى وسليمان).
البعريني أكد لـ«الأخبار» أنه يدعم الرفاعي ليثبت للجميع أنه «مع الاعتدال، ولا أتعامل مع الاستحقاق من منطلق مناطقي أو حزبي، بل أمارس قناعتي بدعم من يعمل لمصلحة الطائفة ودار الفتوى وليس لمصالحه الخاصة وحزبه الخاص»، مؤكداً «أن الانتخابات النيابية أصبحت وراءنا ولا نتعامل بكيدية مع أحد».
هذه الحسابات السياسية والمناطقية والعشائرية الضيقة هي ما حالت سابقاً دون إيفاء الحريري بوعوده عشية انتخابات عام 2018 وبعدها. وقد نقل مقربون عنه حينها رغبته في تحديد موعد للانتخابات، لكنه في كل مرة كان يعمد الى التأجيل تفادياً للإحراج، وكان يردّد أمام من يسأله عن رأيه: «الشيخ أسامة عين والشيخ زيد عين».
وتضم الهيئة الناخبة في عكار 172 ناخباً، موزعين بين الهيئتين التشريعية والتنفيذية، والنواب السنّة الثلاثة، والقضاة الشرعيين العاملين (ثلاثة)، وقاض مدني واحد (القاضية رانية الأسمر)، وأعضاء المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى (ثلاثة)، ومدرّسي الفتوى (11 عضواً)، والمجلس الإداري في الأوقاف (9 أعضاء)، والأئمة المنفردين العاملين المثبّتين والمتعاقدين والمكلفين (70) ورؤساء وأعضاء المجلس البلدي من المسلمين السنّة (72).
«سنحترم خيار الهيئة الناخبة. فنحن من طالبنا بالانتخابات، وننتظر هذا الاستحقاق منذ 47 عاماً، واليد ممدودة لمن يفوز من دون أي تهويل أو ضغط أو تشويش عبر الشائعات المغرضة التي يتم تسويقها»، تقول مصادر مقربة من المفتي زكريا، نافية الشائعات التي تنتشر بين المشايخ وأعضاء الهيئة الناخبة عن ضغوط تمارس عليهم. وهو ما دفع بعدد من المشايخ الى التمنّي على دائرة الأوقاف ورئيسها الشيخ مالك جديدة الذي سيدير العملية الانتخابية البقاء على مسافة واحدة من كل المرشحين.
ولمع اسم المفتي الرفاعي ابن بلدة ببنين (عُيّن بين عامَي 2006 و2011) بعدما سلّف آل الحريري مواقف سياسية وطائفية ومذهبية كانت وقود تلك المرحلة، وهو صاحب المقولة الشهيرة «نملك جيشاً يبدأ من عكار وينتهي في بيروت»، رداً على ما اعتبره حينها احتلال بيروت ومحاصرة عناصر من حزب الله السرايا الحكومية، ولم يتوانَ عن تشبيه رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة بالخليفة عثمان بن عفان، داعياً إياه إلى «عدم نزع القميص الذي تقمّصه». ومنذذاك، أصبح صاحب حظوة لدى الحريري الذي أعطاه امتيازات وفتح له «حنفية الخدمات» ليتقدّم على نواب المستقبل وقياداته في المنطقة. وهو ذهب بعيداً في استفزاز المشاعر المذهبية التي أدّت إلى الأحداث الدموية في حلبا بين تيار المستقبل وعناصر الحزب القومي عام 2008، وذهب ضحيتها 11 عنصراً من القومي. ورأى الرفاعي يومها أن ما جرى «مشكل وليس مجزرة. تم الاعتداء علينا وأجبنا».
يقف البعريني إلى جانب الرفاعي رداً على دعم زكريا لمرشح «التغييريين» في الانتخابات


مواقف الرفاعي دفعت بالعديد من مشايخ عكار وأئمّتها الى رفع كتاب للمفتي السابق محمد رشيد قباني عام 2011 مطالبين بسحب تكليفه، وهو ما فعله بالتزامن مع فتور علاقة المفتي يومها مع الحريري.
بعكس ولاية الرفاعي، اتّسمت ولاية زكريا (بين 2013 و2018) بالهدوء رغم المخاطر الأمنية التي لفّت تلك المرحلة تزامناً مع الحرب السورية وموجات النزوح الى عكار والإرهاب الذي ضرب المنطقة. وهو أدّى دوراً في درء الفتنة عن عكار في أكثر من محطة، واستطاع امتصاص الغضب يوم مقتل الشيخ أحمد عبد الواحد عام 2012 إثر إشكال مع الجيش اللبناني، فعمل على احتواء الحادثة ومنع التعرّض لعناصر الجيش والقوى الأمنية. وفي عام 2014، وتزامناً مع موجة الإرهاب والتكفير وتفريخ الخلايا الإرهابية في أكثر من بلدة، إضافة الى حادثة ذبح العسكريين في عرسال (أحدهم الشهيد علي السيد من بلدة فنيدق)، كانت مواقف زكريا حاسمة تجاه الحركات التكفيرية، فأطلق فتاوى مناهضة لتنظيم «داعش» الذي عمد إلى تكفيره وهدر دمه.
كذلك عمل زكريا مع المرجعيات الروحية في عكار، من مختلف الطوائف، على تأسيس اللقاء الروحي العكاري الذي يعقد اجتماعات دورية ساهمت في منع انتقال التوتر إثر أحداث جبل محسن والتبانة وارتدادها على قرى وبلدات سهل عكار المتداخلة مذهبياً. وهو يرأس عدداً من المؤسسات التربوية، والخيرية والإغاثية، ويحتفظ بعلاقات طيّبة مع زملاء وصلوا إلى مراكز دينية حسّاسة في الخليج، أهمها في وزارة الأوقاف القطرية، إضافة الى علاقات مميزة مع السعودية والاغتراب وتحديداً المغتربين في أوستراليا.
المعركة لن تكون سهلة، يقرّ عدد من رؤساء البلديات السنّة، إذ إن التدخلات والضغوط بلغت ذروتها، وتتّجه نحو مزيد من الحماوة مع اقتراب الاستحقاق، تحت عناوين سياسية مختلفة بعدما فشل المرشحون في الحفاظ عليها ضمن إطار التنافس الديني على برنامج للنهوض بالأوقاف، وحاجات المشايخ، وهموم أبناء الطائفة.