هن ثلاث نساء شاءت أقدارهن أن يعشن خارج فلسطين. غادرن إلى بلاد الله الواسعة، لكن قلوبهن بقيت هناك في فلسطين. لكل منهن سبب، لكن النتيجة واحدة. ما إن انهمرت صواريخ آخر نظام عنصري في العالم على غزة، حتى عادت النساء الثلاث إلى أصل الحكاية. حكاية وطن يجد نفسه مرة جديدة بين نار العدو وظلم الشقيق أو تواطؤه أو الشماتة.
أديم سيدة في أوج شبابها. والدها الملّاك الفلسطيني سمّاها هكذا تيمّناً بوجه الأرض. زرع فيها حب الأرض التي تبرع بجزء كبير منها للمقاومة. غرس فيها تمرد المقاومين ونضالهم وتعلقهم بتراب فلسطين وتينها وزيتونها وعرق فلاحيها. كانت أديم تعيش هانئة في السعودية. قررت قبيل يومين فقط من الحرب الحالية على غزة أن تعود. لم تسمع نصح الرفاق بأن البلاد مقبلة على حرب بذريعة الانتقام لخطف المستوطنين. حملت ابنتها وعادت. توقفت في مطار عمّان. جاءتها سيدة إسرائيلية تسألها عن وجهة رحلتها. قالت: إني عائدة إلى أرض أهلي وأجدادي، فأنا من حيفا. قالت: نحن عائدون وأنتم بإذن الله راحلون قريباً. الأرض لنا والناس والشجر وزهر الليمون والزيتون. جُن جنون السيدة الإسرائيلية. نعتتها بالإرهابية، كالمعتاد في حالات كهذه. ابتعدت عنها وهي تصرخ على نحو هستيري علّها تُنذر الأمن الأردني. ضحكت أديم وضحكت ابنتها التي لا تزال في ربيع طفولتها. عادتا إلى غزة حيث منزل الأهل.
قالت لي أديم إن شجرة الكينا المزروعة قرب منزل أهلها لا تزال تقاوم القصف. دمرت الصواريخ بيوتاً كثيرة. قتلت من الجيران من قتلت. لكن أديم وأهلها وابنتها مقتنعون بأن إسرائيل تحفر قبرها بيدها هذه المرة وبأن غزة ستخرج منتصرة. قالت لي أديم إنه كلما سقط صاروخ ما عادت ابنتها تصرخ. صارت تضحك وتكتفي بالقول: «إني أكره إسرائيل». سنحوّل صواريخهم إلى مهزلة، قالت أديم.
عبير سيدة فلسطينية قادتها أقدارها إلى فرنسا. موظفة في القطاع العام ولها ولدان في ربيعهما العشرين. تعيش حياة هانئة في باريس. تُعيد في أوقات فراغها إحياء التراث الفلسطيني غناءً ودبكةً ورقصاً وعروضاً. غالباًً ما تدفع من راتبها أجرة عازف حين تضيق الحال. حوّلت منزلها إلى متحف فلسطيني. فيه مفتاح عتيق لبيت أهلها. فيه خرائط فلسطين ولوحة كتب عليها «حبايبك ناطرينك ترجعي». وفيه سجاد فلسطيني وطاولة وأقداح وكوفية وصور وكتاب خرائط قديم، كلها عن فلسطين.
الموظفون في مثل حال عبير غالباً ما يتجنّبون الظهور السياسي. ما عادت المجاهرة بدعم فلسطين وشجب إسرائيل والصهيونية بالأمر السهل في فرنسا. الكلام على المقاطعة قد يعرِّض صاحبه للعقوبة. لا شيء من كل هذا يردع عبير، فكيف إذاً والقصف الإسرائيلي ينبئها كل يوم بكارثة إنسانية في غزة.
هي فلسطين تبقى هناك في مكان ما في القلب عصيّة على النسيان. فلسطين هي تلك التي تلمع في عيني عبير وهي تروي قصة رحلتها الخطيرة عبر الأنفاق من مصر إلى غزة. ناورت. اخترعت قصصاً. تحجبت. غيّرت شكلها وهويتها. تعلمت لهجة الغزاويين لكي تعبر النفق بعربة بضائع صوب فلسطين. لم ينفعها جواز سفرها الفرنسي، ولا نفعتها لغتها الفرنسية الممتازة في القفز فوق جور إسرائيل. ذهبت مع فريق للتضامن بعد الحرب الإخيرة، فصارت على اللائحة الإسرائيلية السوداء. سرقوا منها هويتها الفلسطينية. اعتقلوا رغبتها بالعودة ثانية، فقررت أن تنقل فلسطينها إلى فرنسا. ها هي تتصدر التظاهرات. تتحدى المنع. تهتف بسقوط إسرائيل. تتعرض لهجمات العصابات الصهيونية. تضحك لنزول المغاربة لنصرتها ورفاقها ضد العصابات. تلف كوفيتها حول رقبتها، وتقول إن غزة ستنتصر، لأن من رأى أهل غزة وعنفوانهم وعزتهم وسخرية عيونهم أمام الشهادة يسكنه اليقين بالنصر.
نائلة سيدة لبنانية مسحورة بروايات أمها عن الناصرة وحيفا والبيرة ورام الله والقدس. ماتت أمها الفلسطينية وهي تروي قصص طفولتها وأهلها في فلسطين. تنتمي أمها إلى عائلة ارستقراطية خرَّجت أوائل الأطباء الفلسطينيين من أميركا. ماتت أمها في فرنسا ودفنت بعيداً عن الأرض التي تحتضن كل أهلها. حوَّل الإسرائيليون منزل عائلتها إلى متحف. غيّروا اسم المنزل والشوارع والحوانيت والزواريب والحواري. غيَّروا التاريخ المحفور بأيادي أهل فلسطين وعرق الجبين ودم الكرامة. كادوا يغيرون لون الشجر والحجر ونسمة الصباح.
بعد وفاة والدتها بعامين، قررت نائلة البحث عن تاريخ أمها. حملت قصصها وكل العواطف التي تغلِّف القصص إلى حيفا. دخلت إلى محل لبيع الخضار. نظر البائع في عينيها وسألها: «ألستِ ابنة ليلى؟». يستطيع الإسرائيلي أن يغيّر الأسماء، لكنه لن يغيّر ذاكرة الناس ولا تاريخهم. استقلّت نائلة سيارة أجرة. كانت تجوب الشوارع وتسأل وتبكي. ذهبت إلى القدس الشرقية. عبرت بباص إلى القدس الغربية. دندنت ذاكرتها أغاني فيروز وروايات الأم. يا قدس يا زهرة المدائن. قالت: «كنت أشعر بأني أحمل عيني أمي وأغرف من الحاضر والتاريخ بلونهما».
لم تعترف نائلة يوماً بتميز بين الطوائف. لم تختر لزواجها رجلاً من طائفتها. هي، كمعظم أبناء جيلها، عرفت الحياة بلا طوائف ولا مذاهب ولا عودة إلى القرون ما قبل الوسطى. لكن هناك، هناك في شوارع القدس العتيقة، هناك بين البيوت الحافظة تحت كل حجر قصة ناسها الحقيقيين، يصبح للكنائس العتيقة عبق التاريخ ورفض الجغرافيا الجديدة وجدارة الحياة. لن يغيّر التزوير شيئاً من تاريخها.
سألتها عن أحوال الناس، وعن هجرة المسيحيين. روت عن قلق بعضهم من بطش إسرائيل. تحدثت عن جور الضرائب بلا خدمات. حكت عن مجتمع إسرائيلي لا يشبه الواحد فيه الآخر. شاهدت الفالاشي الإثيوبي منفصلاً عن اليهودي الأوروبي أو اليهودي القادم من بلاد الشرق أو المغرب العربي (الأشكيناز والسفارديم). مجتمع التُقط ناسه من أصقاع الأرض، فبدا هجيناً دخيلاً غريباً عن الأرض وناسها، ولم يجد سبيلاً للبقاء إلا بقتل الناس وتهجيرهم. لكن نائلة روت أيضاً حكايات ناس يحمون الأرض بأهداب العيون، وعيونهم تسخر من المحتل. روت عن عرب يشترون بيوتاً أكثر مما يبيعون. شاهدت الخوف والحقد في عيون الإسرائيليين، بمن فيهم المسلحون في باصات النقل العام. عادت نائلة من فلسطين حاملة من حب أهل الأرض ما يكفيها قروناً. عادت وفي ذهنها سؤال واحد: «لماذا تركناهم كل تلك الفترة وحيدين بذريعة أننا لا نريد الذهاب إلى أرض محتلة؟».
من يسمع روايات السيدات الثلاث، ويشاهد صمود غزة رغم الجراح والألم، فلا بد له أن يتذكر ابن الأرض محمود درويش يقول بصوته الشامخ: «أنا الأرض والأرض أنت...خديجة لا تغلقي الباب/ لا تدخلي في الغياب/ سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل/ سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويل/ سنطردهم من هواء الجليل...».