غزة | شحذ الاحتلال سكينه ومضى يقتل سكان حي الشجاعية شرق غزّة بلا هوادة. على أحد أرصفة شوارع الحي ثمّة طفلة أرخت بضفيرتها على كتف شقيقها ولفظت أنفاسها الأخيرة. الأمّ أيضا كانت تربت على كتف طفلتها ملتصقة بجسدها قبل أن ترحل هي الأخرى. على الرصيف الآخر لا حضور إلا لجثث متكدّسة فوق بعضها بعضاً بعدما زحف أصحابها بحثاً عن النجاة.
كان سباقا مع الموت الذي وزعته أكثر من 400 قذيفة نحو البيوت المتراصة التي لا تفصلها أيّ مسافة، فأحالتها خرابا كبيرا لم يميزه زوار المنطقة. أمّا الناجون، فجسّدوا لوحة النكبة من جديد. خرجوا حاملين أرواحهم معهم، وهم يهرولون نحو بوابة المجهول، منهم من عضّت الحياة عليهم بنواجذها، ومنهم من تساقطت القذائف بين أقدامهم فصعدت أرواحهم من الفور.
وسط المجزرة التي طاولت حيا سكانيا كثيفا، تعاظم عدد الشهود على المجزرة. مرح الوادية إحدى الناجيات من موت محقق تقصّ كيف تجمعت عائلتها في غرفة ضيّقة طوال الليل هرباً من القذائف. بقوا يصارعون الموت أكثر من ثماني ساعات متواصلة، وهم غرقى في الظلام الدامس، ومعزولون عن العالم إثر انقطاع الاتصالات. تقول لـ«الأخبار»: «أنا شفت وعشت صبرا وشاتيلا! صرت شاهد عيان على مجزرة ستؤثر في نفسيتي العمر كلّه! انقتلت بدل المرّة مليون ولسّه بتنفّس! الموت كان بيلحق فينا من مكان لمكان». ريثما انقشع ظلام الليل، جازف أفراد عائلة الوادية وتركوا منزلهم الذي يختزل كلّ ذكرياتهم.
وتذكر الوادية أنهم سمعوا في بداية المجزرة أصوات طلقات الرصاص كان خلفها عملاء جابوا الحيّ، «وأراد العملاء إرباك السكّان والمقاومين، فالرصاص لم يكن عاديا، ولم تدر أي اشتباكات بين المقاومين وجنود الاحتلال». وتستطرد: «منطقتنا بعيدة بعض الشيء عن الحدود، لذلك أدركنا أن قوّات الاحتلال لم تتجاوز بعد شارعي النزّاز وبغداد، إذ سرعان ما عمّم المقاومون أن لا علاقة لهم بذلك، بل كان هذا بفعل العملاء الذين سعوا إلى كشف المقاومين».
أطلق العملاء الرصاص ليستفزوا المقاومين ويكشفوا أماكنهم

بعد تراجع القصف قليلا لم تحزم العائلة أمتعتها، فما كان هناك متسّعٌ للتفكير سوى في النجاة بأرواحهم، حتى إنهم فرّوا حفاة الأقدام في مشهد استحضر الفلسطينيون فيه كلّ تفاصيل النكبة. في الطريق المعبّد بالصعاب، مرّت الوادية بعشرات الجثث الممدّدة في الشوارع. عائلاتٌ بأكملها مبلّلة بالدم تكوّمت عند زوايا الشارع، كما تنقل شهادتها.
من فرط الموت، اكتظّت مدارس «الأنروا» بالنازحين ليضطر مستشفى الشفاء وسط مدينة غزّة إلى استقبال مهجّري الحي حتى بدأ بعضهم يتنقّل بين الأكفان وثلاجات الموتى باحثا عن أقربائه وأصدقائه. يروي أحد الشهود على المجزرة، ويدعى سامي بهار، أن «القصف كان عشوائياً وعنيفاً جدا، وأصاب البيوت مباشرة. لذا اضطررنا إلى الفرار، ووصلنا إلى الساحة وسط المدينة سيراً على الأقدام، حتى جاءت سيارات البلدية ونقلتنا إلى المستشفى الذي لمّ شتات العائلات».
أما ناهد مصبح، التي تقطن بجوار مستشفى الوفاء المحاذي للحدود الشرقية، فقد طُبعت في ذهنها صورة أسرة كاملة كانت تسير أمامها وقت الهرب نحو المجهول، وسرعان ما عاجلها جيش الاحتلال بقذيفة مدفعية طرحت أفرادها أرضاً. تقول لـ«الأخبار»: «هذه المشاهد أقسى علينا من نكبة 1948».
القصة تكررت مع محمد السرساوي (21 عاماً) لكنه ترك جثامين الشهداء ملقاةً على الأرض وهرب مع عائلته إلى وسط المدينة. هو أيضا دمّر الاحتلال منزله، وقُتلت خالته وابنتاها أثناء قصف المدفعية البيت المحاذي لهم.
محمد جندية له قصة مختلفة خلال المجزرة، فهو فقد ابن خاله وأمه وجده، وخرج من منزله مع طفليه يمشي فوق جثث الشهداء من جيرانه، وكانت الدموع تتساقط منه لأنه لم يملك وقتا لتوديع الملقين على الأرض، أو لإلقاء نظرة أخيرة على جدران بيته.
داخل مستشفى الشفاء، تجلس أم عدنان أبو القمبز، وبجانبها أولادها وبناتها، وكل منهم بيده كيس فيه ملابسه التي حصلوا عليها بسرعة قبل الهرب. هم كانوا أحسن حظا من غيرهم لجلبهم شيئا من البيت. تقول أم عدنان لـ«الأخبار»: «بعد عجزنا عن الاتصال بالإسعاف والصليب الأحمر دخلت علينا شظايا وتسببت في حريق... لم نجد أحدا ليساعدنا حتى جاء أحد رجال المقاومة وأخمد الحريق بسرعة». دخلنا إلى المستشفى أكثر، ووقعت عيننا على الطفل قصي أبو القمبز الذي جلس على مقعد أزرق صغير ويداه ترتعشان خوفاً. حاولنا استنطاقه لكنه بقي يكرر: «بابا بالبيت خايف عليه». هذه العائلة حتى كتابة هذه السطور تجهل مصير الأب، لأن كثيرين لا يزالون تحت الأنقاض وتعذّر على طواقم الإسعاف والدفاع المدني الوصول إليهم.
حاولت إحدى الموجودات تهدئته، وتدعى أم وائل منصور، وتضيف: «عشت حرب 1967 وحروبا غيرها، لكن زي هاي الحرب عمري ما شفت. اللي صار أصعب من قانا وصبرا شاتيلا». وتتابع وهي تبكي: «الناس اللي طلعوا ينقذونا لما وقعت قذيفة على بيتنا ماتوا بالشوارع. كلهم صاروا جثث، حسبي الله ونعم الوكيل».
أما الشاب محمد اسليم، الذي كان يحمل بين ذراعيه طفله المصاب، فعبر عن قهره لشعوره بالعجز وقتما زفر كلٌّ من شقيقه وأخته زفرات الموت، قائلاً: «شفتهم بموتوا قدامي وضلوا ينزفوا كتير. كنّا مش عارفين نعمللهم اشي. الإسعافات كانت مش قادرة توصل للمكان من شدّة القصف». ويضيف: «بعد ما راح أكثر من 70 شهيد، شو بستنى العالم ليتحرك؟ بستنوا تنباد غزّة!».