غزة | منذ أيام والحاج أبو عبد الله يجلس قبالة بوابة قسم الاستقبال في مستشفى الشفاء، وكلما جاءت سيارة إسعاف تقل مصاباً أو شهيداً، يهم ويفتش في الوجوه لعله يتعرف إلى ابنه الذي ذهب إلى المشاركة في القتال ضد الاحتلال ولم يعد منذ خمسة أيام.
الحاج أبو عبد الله (60 عاماً)، أحد سكان حي الشجاعية، يخشى أن يكون ابنه الذي يقاتل في صفوف سرايا القدس، الذراع العسكرية لحركة «الجهاد الإسلامي»، قد استشهد جراء الاشتباك مع الاحتلال لأكثر من خمسة أيام.
يمسح الرجل الدمعة من عينه ويقول لـ«الأخبار» إن «مصير ابني مجهول... حتى قادته الميدانيون لا يعلمون إذا كان على قيد الحياة أو استشهد»، الأمر الذي يبقي قلبه منفطراً طوال الوقت.
غادرت عائلة أبو محمد حيها على وقع الدمار، لكن قلبها لا يزال معلقاً بابنها صاحب المصير المجهول الذي كان قد سارع منذ اليوم الأول في الحرب إلى ارتداء بزته العسكرية وحمل عتاده واتجه صوب الميدان.

تخوف من تحلل عشرات
الجثث تحت الأنقاض وصعوبة التعرف عليها لاحقاً

يرفض الأب أن يغادر المستشفى رغم إلحاح أبنائه عليه بالعودة إلى مكان إقامتهم الذي لجؤوا إليه بعد النزوح عن مسكنهم، ويؤكد لـ«الأخبار» بالقول: «لن أبرح مكاني هذا إلا وأنا عائد مع ابني (آخر العنقود)، سواء أكان حياً أم شهيداً».
يستظل الرجل بشجرة مقابلة لقسم الاستقبال المخصص لإسعاف المصابين، ويهم بين حين وآخر إلى القسم حتى يسأل السكرتير عمّا إذا ورد اسم ابنه على قوائم المصابين أو الشهداء الجدد. في أحيان كثيرة يتجه إلى ثلاجات الموتى ليبحث بين الأكفان عن وجود للمجاهد الذي فقد أمه قبل أربعة أعوام.
بينما نحن نحاور الحاج، وصلت إلى المستشفى سيارة إسعاف قادمة من حي الشجاعية تنقل أشلاء شهيد عثر عليه تحت الأنقاض، انتفض الحاج وهرع مسرعاً نحو السيارة للتعرف إلى ملامح الشهيد، ولما عرف أنها جثة الشهيد أيمن عياد (24 عاماً) بردت ناره قليلاً وعاد إلى ركنه.
الألم نفسه يحصل مع أم زكي، التي ودعت ابنها للذهاب إلى القتال مع مجاهدي كتائب القسام التابعة لحركة «حماس». قبل سبعة أيام وقد انقطعت اتصالاته تماماً من دون أن تعرف مصيره حتى اللحظة، مشيرةً إلى أن كل ما تعرفه عن طبيعة عمل ابنها أنه يعمل تحت الأرض (الأنفاق). أم زكي (48 عاماً) لا تترك هاتفها الجوال، وهي تتصل برفاق وزملاء ابنها وحتى جيرانه لتسألهم هل سمع أحداً منهم أنباء عنه لكن محاولاتها باءت بالإخفاق.
تقول الأم لـ«الأخبار» إن نجلها محمد وهو الأوسط بين إخوته الخمسة يقاتل في صفوف «القسام» منذ نحو ثماني سنوات، وأنه لم يتخل يوماً عن مشاركة رفاقه في المهمات الجهادية. وأضافت، وهي في حالة تأثر شديد: «لا أريد أن أفقده. الضنى غالي يا قلبي يما. أريده أن يقضي العيد مع أبنائه»، ثم كفكفت دمعتيها وصمتت.
أما زوجته أم مصعب، التي يغطي وجهها نقاب أسود، فتقول بصوت منخفض متأثرة بغياب زوجها: «في كل مرة يذهب إلى الرباط أودعه كما لو أنها آخر مرة أراه، لكن هذه المرة غيابه قد طال، وأخشى أن يكون قد استشهد دون أن يعلم أحد من رفاقه بمصيره».
وتشير الزوجة الثلاثينية، وهي تربت كتف صغيرها الذي لم يكمل العامين، إلى أن «قلوبنا ملتهبة، فما عدنا نشعر بالراحة، لا في الليل ولا النهار... طفلاي يسألان كل حين أين بابا، ولا أعرف كيف أطمئنهما... مصيره المجهول لا يزال يقتلني».
ويتخندق على حدود قطاع غزة الشرقية والشمالية عشرات العناصر من فصائل المقاومة، وفق إفادة قائد ميداني في ألوية «الناصر صلاح الدين» يعرف عن نفسه بـ«أبو خالد». «لا يبرحون نقاط رباطهم إلا بتعليمات من القيادة، ومعظمهم لا يحمل وسائل اتصال خلوية»، يشرح أبو خالد.
ويشير القائد الميداني الذي التقته «الأخبار» إلى «استحالة تراجع المقاومين في نقاط الرباط المتقدمة لما يشكل ذلك من خطورة على أرواحهم وقد يساعد ذلك الاحتلال في الكشف عن أماكن وجود المجاهدين».
ووفق إفادة مسعفين وشهود عيان، فإن المناطق الحدودية المدمرة لا تزال تحتضن بين أنقاضها وتحت ركامها عشرات الجثث، لكن يصعب الوصول إليها في ظل إطلاق النار المتواصل. ويوضح وائل عليوة، وهو أحد أفراد الكادر الطبي العامل في قسم الاستقبال في مستشفى الشفاء، أن كارثة حقيقية ستصيب الأهالي بعد انتهاء الحرب، «لأن هناك عشرات الجثث قد تحللت بفعل مكوثها لأيام تحت الأنقاض»، مؤكداً أن هذا الأمر سيصعب عملية تعرف الأهالي إلى أبنائهم في ظل غياب تقنيات حديثة للتعرف إلى الجثث.