الخليل | «تعلن كتائب شهداء الأقصى الذراع المسلحة لحركة «فتح» مسؤوليتها عن إطلاق النار على قوات الاحتلال الجاثمة على حاجز قلنديا العسكري في رام الله، وتتبنى الاشتباك المسلح مع جنود الاحتلال على الحاجز، وتؤكد وقوع إصابات في صفوفهم، بتاريخ السبت السادس والعشرين من حزيران 2014». ليس هذا بياناً عسكرياً عابراً أو واحداً من مجموعة بيانات عسكرية اعتادت المقاومة في غزة، مثلاً، أن تصدرها في يوميات الحرب. إنها الضفة المحتلة.
لمن لا يعرف ماذا يعني أن تعلن كتائب الأقصى التابعة لفتح عن اشتباك مسلح في إحدى مدن الضفة، عليه الالتفات جيداً إلى أن عملية السور الواقي التي جرت عام 2002 وما تبعها من سياسة التنسيق الأمني المعلنة بين السلطة الفلسطينية والجانب الإسرائيلي كانتا أهم عاملين في وأد المقاومة هناك، وخاصة أن معظم العمليات الاستشهادية في الأراضي المحتلة التي أوجعت الاحتلال كان منطلقها من هذه المدن.
منذ ذلك الوقت، عملت حركة «فتح» على سلخ نفسها عن الكفاح المسلح، على اعتبار أن مرحلة التحرير انتهت. واليوم صار موعد بناء الدولة، وجرى بناءً عليه تنسيق عفو عام مع الإسرائيليين على ناشطين من الكتائب رغم أنه وثق عليهم قتل جنود من جيش الاحتلال، وجرى دمجهم ضمن أطر برامج توعوية ونفسية، إضافة إلى إدخالهم في منظومة العمل الوظيفي في مؤسسات السلطة وإعطائهم رواتب وترقيات.
رغم ذلك، بقي حتى اليوم تصنيف الجناح العسكري لـ«فتح» ومثيلاته على أنها «إرهابية»، وصارت «الأقصى» وأوصافها وعدد عناصرها وأهم عملياتها ورموز شعارها موجودة على المواقع الإلكترونية لمراكز مكافحة التمرد العالمية (المراكز العاملة في مجال تفكيك حركات المقاومة وحاضنتها الشعبية).
ومع اندلاع المواجهات الأخيرة في نواح عديدة من الضفة، يبرز السؤال: هل ستعود كتائب الأقصى التي اتخذ قرار إنشائها فتحاوياً في بداية الانتفاضة الثانية إلى تصدر واجهة الأحداث وقيادة الشارع الفلسطيني إلى انتفاضة ثالثة، وخاصة أن الحجارة انتهى مفعولها العملي مقابل تأثير السلاح منذ الانتفاضة الأولى وإن بقيت رمزاً يرهق الاحتلال؟

اغتيال واعتقال عدد من
قادة «الأقصى» ممن منحوا
عفواً من إسرائيل


تشكيلات الكتائب في غزة
تدعم «حماس» و«الجهاد»
أو حزب الله
قبل الإجابة، ينبغي التنبيه إلى أن الكتائب في رؤيتها تهدف إلى التخلص من الاحتلال الإسرائيلي الموجود في مناطق الـ 67 من أجل إقامة الدولة الفلسطينية، أي أن رؤيتها تتماشى ورؤية الجناح السياسي للحركة في مشروع إقامة دولة على حدود حزيران. لكن هذا لم يمنعها من تنفيذ عمليات فدائية خلال الانتفاضة الثانية خارج الضفة، بل وصلت إلى تل أبيب. وامتدت تشكيلات الكتائب إلى قطاع غزة، لكن نموها توقف مع اغتيال مؤسسها هناك الشهيد جهاد العمارين، ما أدى بها إلى التوزع إلى مجموعات صغيرة مقاتلة. كما اختفى دور «الأقصى» في غزة تدريجاً مع إمساك محمود عباس بزمام السلطة، واليوم اقتصر وجودها في القطاع على مجموعات تتلقى دعماً من «حماس» (مجموعات أيمن جودة) أو «الجهاد الإسلامي» (المجاهدين وأبو شريعة) وحزب الله (عماد مغنية).


تفكيك الكتائب

ضمن عملية إعادة الهندسة الاجتماعية (راجع العدد ٢٣٥٠ الثلاثاء ٢٢ تموز ٢٠١٤) التي شهدتها الضفة في أعقاب انتهاء انتفاضة الأقصى، وضمن عملية بناء الدولة الفلسطينية على أسس السلام والديموقراطية والتعايش مع الاحتلال، اتفقت السلطة والاحتلال في تشرين الأول 2008 على منح «العفو» لناشطي كتائب الأقصى الذين تعهدوا بتسليم سلاحهم والتوقيع على ورقة تلزمهم ألا ينفذوا عمليات ضد إسرائيل، وكان مجموع من شملهم العفو 326 من أصل قائمة طويلة أعدّها الاحتلال لكل مطاردي الضفة من جميع الفصائل وسلمها للسلطة التي باشرت تشكيل لجنة اسمها لجنة المطاردين من أجل الحوار معهم وعقد اتفاقات عفو وتسليم سلاح وغير ذلك.
وبموجب الاتفاق، تتوقف سلطات الاحتلال عن مطاردتهم، على أن يبقوا في المراكز الأمنية ثلاثة أشهر. وفي نهاية هذه الأشهر، تبلغ السلطات الإسرائيلية السلطة أيهم حصلوا على عفو تام أو جزئي، ومن منهم أخرج من قائمة المطلوبين أو لا يزال كذلك بزعم أنه لم يحترم الاتفاق، وهو ما شمل عناصر «الأقصى» بشرط تخليهم تماماً عن المقاومة.
أيضاً سمح لبعض من شملهم العفو بالتنقل فقط في مناطق «أ» (الخاضعة للسيطرة الفلسطينية)، وذلك بعد إخضاع جزء آخر ممن رفض في السابق منحهم العفو مرحلة اختبار قبل اتخاذ قرار بشأنهم. أصحاب الإعفاء الجزئي كان يحق لهم المغادرة من السابعة صباحاً، ثم يعودون إلى النوم في مقار السلطة عند التاسعة. كل هذا الإذلال لم يمنع الاحتلال من اغتيال أو اعتقال عناصر منحتهم «العفو».
السرد السابق بهذه التفاصيل هدفه توضيح كيف جرت عملية التفكيك لمنظومة حملت السلاح وتلقت الدعم من الخارج، وفي المقابل اشترت منظومة كل السلاح مقابل العفو والتزام المطارد بتوقيع وثيقة تضمن ألا يعود إلى «العنف» مقابل تمتعه بحياة «طبيعية». وفقاً لهذا النظام، بدأت حالات انتشار المسلحين في المدن والقرى الفلسطينية وبعض المخيمات بالاختفاء من الشارع، كما شهد عام 2008 التعامل بحزم مع كل من رفض ترك سلاحه.
أما من استطاع الحفاظ على سلاحه والنجاة من فخ العفو العام ومنظومة التفكيك فهم الرافضون وبعض الأسرى المحررين الذين اشتروا السلاح بأضعاف ثمنه مقابل احتفاظهم به، على أن يكون شبكة أمان لهم في ظل تحولات كثيرة تشهدها الحالة السياسية الفلسطينية. هؤلاء بقوا في الميدان وتمركزوا في المخيمات مثل جنين وقلنديا وبلاطة وغيرها من المناطق التي تصنفها كل من السلطة والاحتلال على أنها بؤر قلق.

عودة قريبة؟

أما المشهد الحالي فهو انكفاء «فتح» عن دعم العمل المسلح واعتقال أو اغتيال القيادات التي كانت معنية بهذا الملف، إلى جانب ميل القيادة الحالية إلى ما يعرف بالمقاومة «السلمية» المتمثلة في التظاهرات التي يجري منع أغلبها من التوجه إلى مناطق التماس مع الاحتلال. في المقابل، تنذر حوادث إطلاق النار الأخيرة بأن هناك ضوءاً أخضر أعطي لبعض المسلحين الذين تجمعهم علاقات بنيت على أساس هرمي مع القيادة، لأنه لا أحد يمكنه التحرك بسرعة لتنفيذ أي هجوم مسلح سوى من يستطيع توفير غطاء خارج أعين الأجهزة الأمنية المتعددة.
بعيداً عن سيناريو محاولة القيادي المفصول من الحركة، محمد دحلان، إشعال الضفة بناءً على أنه صاحب تجربة سابقة في التنسيق الأمني، يمكن قراءة الحدث وفق سيناريو آخر يقول إن انجرار بعض الكوادر الفتحاوية إلى المواجهة أو انجرار التنظيم كله إليها قضية ليست مطروحة في الأفق. لكن يبدو أن بعض الخلايا المسلحة أخذت على عاتقها العمل الفردي، وإن كان يصعب إيصاله إلى حالة نظامية نتيجة للظروف المعقدة على الأرض وشح التمويل الذي لا يخفى على المتابعين أنه نقطة ارتكاز، وخاصة مع الغلاء الكبير للسلاح في الضفة.
ولجهة الربط مع ما يحدث في غزة بعد أكثر من عشرين يوماً على الحرب، فإن المواجهات تتسع رقعتها في الضفة وبجانبها الأراضي المحتلة. أكثر من 36 نقطة اشتباك مع الاحتلال وبيانات صحافية تتحدث عن تنفيذ كتائب الأقصى عدداً من العمليات ضد أهداف إسرائيلية... هل هذا يعني عودة التنظيم المسلح إلى الواجهة مرة أخرى، وهل ستستيقظ الخلايا النائمة لمواجهة إسرائيل، وخاصة في ظل الحديث عن أن المتكفل بتمويل الكتائب في الضفة هو حزب الله مباشرة؟ أيضاً يمكن السؤال عن قرارات بعض قيادات السلطة التي قد تعمل مبدئياً على استغلال عودة «الأقصى» لكسب تعاطف الجماهير الغاضبة من الإخفاق السياسي؟
في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن التنسيق الأمني لا يزال بالمرصاد لأي عمل عسكري في الضفة، وبالتحديد في المخيمات التي لم تنجح منظومة السلطة في إعادة هندستها وتفريغها من نوى العمل المسلح، لكنها تسعى بيد من حديد إلى ضرب أي عمل في طور النمو، وإن كانت تلك الخلايا من أفراد تابعين لـ«فتح». في كل الأحوال، إن جرى ذلك سنرى خلايا وحيدة تتحرك بالاعتماد على حرب العصابات والسلاح الخفيف، ومن يعرف الضفة يعلم أن هذه الخلايا ستكون موجعة بالقدر الذي يشكل رعباً لكل المستوطنين والجنود المنتشرين على الحواجز وبين الشوارع.