بات واضحاً أن المقاومة الفلسطينية أصبحت على قدر كبير من المناورة السياسية لتفهم الخانة الضيقة التي تحاول إسرائيل وضعها فيها؛ فبعد هدنةٍ لاثتني عشرة ساعة، قرر الاحتلال تمديدها أربع ساعات أخرى، رفضت المقاومة هذا التمديد الأحادي وأكملت مساء أول من أمس قصفها المدن المحتلة. نهار أمس، شهد مباحثات بين الفصائل أدت إلى قبول الدعوة الأممية من باريس بشأن هدنة إنسانية مدتها 24 ساعة، وقد استبقت المقاومة المبادرة بإعلانها ساعة البدء في غير ما أراده العالم وإسرائيل، ما دفع الأخيرة إلى رفض النجاح الذي تسعى إليه المقاومة بعدما وضعتها إعلامياً في مشهد الرافض للهدنة. إثر ذلك، أعلنت تل أبيب مواصلة عملياتها براً وبحراً وجواً، الأمر الذي استفز المقاومة للرد على العدوان بقصف الأراضي المحتلة ومواصلة العمل براً، وكل هذا جرى على وقع الصدمة الكبرى بعد انتشال جثث نحو 150 شهيداً من مدن قطاع غزة لتتكشف فصول الجريمة الإسرائيلية أكثر فأكثر.

مساء أمس، ذهب رئيس السلطة محمود عباس ووفد رفيع المستوى إلى الرياض لملاقاة الملك عبد الله بن عبد العزيز بعدما ألغى زيارة مشابهة كانت مقررة الأسبوع الماضي، وها هو يبدو اليوم طالباً من السعودية الضغط على مصر من أجل إبداء مرونة أكبر تجاه مبادرتها لوقف الحرب. في المقابل، نقل عن القيادي المفصول من حركة «فتح» محمد دحلان دعوته عباس إلى «ألا يصمت على ما حدث في فرنسا من تجاوز للأعراف الدولية التفاوضية». وأضاف في حديث متلفز: «إذا لم تذهب السلطة إلى محاكمة إسرائيل فسأتبنى لجنة قانونية تقدم شكاوى العائلات التي سحقت في العدوان الدموي إلى الهيئات القانونية الدولية».
اللافت ما أشار إليه دحلان حين أكد أيضاً أن «المبادرة المصرية هي الأساس، ولا تزال صالحة مع الأخذ بالاعتبار مطالب المقاومة»، مؤكداً أن القيادة المصرية «لن تترك للآخرين فرصة التسلية على جراح الشعب الفلسطيني، مرة في باريس ومرة في تركيا». وكشف في الوقت نفسه أن القاهرة «ستشهد اجتماعاً قريباً للفصائل خلال اليومين المقبلين»، مع تأكيد حق المدنيين في غزة (علي حيدر) وحاجتهم، إلى وقف مسلسل تعرضهم لنيران جيش الاحتلال المدروسة والهادفة نهائياً، برغم حاجتهم الماسة، إلى «هدنة إنسانية» بين حين وآخر، فإن اعتبارات كل من طرفي المواجهة أكثر اتساعاً، فقد بات الموقف من التهدئة المؤقتة تحت هذه العناوين جزءاً من الأدوات المستخدمة في الصراع، كلٌ طبقاً لأهدافه وتكتيكاته.


الأمين العام للجهاد وعد الشعب الفلسطيني بإنهاء المعركة مع تحقيق المطالب

بالنسبة إلى الإسرائيلي، هو ومن يدعمه من الدول الإقليمية والعالمية يحاولون تنفيذ عملية تسلل تهدف إلى فرض وقف النار كأمر واقع على أساس تهدئة متبادلة، من دون الالتزام بتلبية مطالب الطرف الفلسطيني. وتستخدم تل أبيب التهدئة، أيضاً، وسيلة للتغطية على المجازر التي ارتكبها جيشها، برغم أنه لا تناسب بين حجم المجازر وهولها، وبين تهدئة تستمر لساعات معدودة. كذلك هي تراهن على أن تجعل الطرف الفلسطيني دائماً كأنه في موقع المسبِّب لاستمرار المواجهة والمسؤول عن الخسائر التي يتعرض لها المدنيون.
أيضاً، تعمل إسرائيل على توظيف محطات وقف النار من أجل تعزيز المشروعية الدولية والداخلية لاستمرار المواجهة، وتهيئة الأرضية للارتقاء إلى خيارات أكثر دموية إن تطلب مسار المواجهة قرارات كهذه، من زاوية نظرها.
على خط مواز، ترى إسرائيل أن وقف النار المؤقت، تحت عناوين إنسانية، يسمح لسكان غزة بالخروج إلى الشوارع من أجل مشاهدة الدمار الذي خلَّفته المواجهة، وأن يؤدي ذلك إلى بلورة موقف شعبي ضاغط على فصائل المقاومة لقبول مبدأ «هدوء مقابل هدوء» مجرد من أي اتفاقات تتصل بالمطالب الفلسطينية.
ضمن هذه الاعتبارات كلها، كان أحد العوامل المهمة بالنسبة إلى قادة تل أبيب أن تبدو إسرائيل كأن يدها هي العليا وأنها هي التي تقدم الأطروحات في هذا المجال وتحدد مداها الزمني، وذلك إلى جانب حضور التجاذبات الداخلية في الحكومة الإسرائيلية بشأن تحديد الموقف العبري وتفاصيله في هذا المجال.
في هذا الإطار، ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مسؤولية استمرار المواجهات العسكرية على حركة «حماس»، التي اتهمها «بخرق خمسة اتفاقات لوقف النار، بما فيها الاتفاقان الأخيران»، وصولاً إلى اتهامها بخرق «الهدنة التي اقترحتها (الحركة) بنفسها».
أما بالنسبة إلى فصائل المقاومة، فإن اعتبارها الأساسي يتمثل بمحاولة تخفيف الضغط بالمقدار المتاح على المدنيين عبر استغلال محطات وقف النار لانتشال الشهداء ونقل الجرحى، وتأمين مستلزمات ضرورية. في مرتبة تالية، تحاول فصائل المقاومة الجمع بين اعتبارات وتكتيكات سياسية تهدف إلى مواجهة المخططات والرهانات الإسرائيلية، وبين قطع الطريق على محاولة الالتفاف على مطالب الشعب في غزة. كما تحضر الاعتبارات المتصلة بالعلاقات والاتصالات السياسية التي تعمل عليها أطراف المواجهة.
وفجر اليوم، ألقى الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، رمضان عبد الله، كلمة بمناسبة العيد وجهها إلى الشعب الفلسطيني، وحملت في فحواها طلباً بالصبر على المرحلة المقبلة، واعداً الفلسطينيين بألا تساوم المقاومة على جراحهم «رغم تآمر العالم وخذلان الأقربين».
وأضاف عبد الله في الكلمة المتلفزة، إن «المقاومة لن تتوقف عن مقارعة العدو حتى نحقق مطالبنا ونفك الحصار»، مختتماً: «كلما زاد الضغط اقتربت ساعة الصفر»، وفي مجمل الكلمة إيحاء بأن الحرب ستبقى مستمرة في ظل الجمود السياسي.
(الأخبار)