غزة | نهار آخر عاشته غزة أمس بعد 29 يوماً من الحرب. لبست المدينة «الجريحة» لبوس الفرح، مسجلةً انتصارها على «آلة الموت الإسرائيلية» حتى قبل التوصل الى اتفاق نهائي لوقف إطلاق النار. مشهد 14 آب 2006 في لبنان تكرر أمس بنفس الصورة والكادر، أهالٍ يعودون إلى ما بقي لهم من منازل وذكريات وأحياء، وعدو ينسحب ذليلاً مطأطأ الرأس.
تشابهت الصور بين لبنان وغزة، أمس، إلى حد التطابق: دمار هائل طال كل شيء في المدينة، من بيت حانون إلى بيت لاهيا إلى الشجاعية ورفح. عرف سكان غزة أن عيون العالم ترصد يومهم الأول في التهدئة، أدركوا لعبة الكاميرا بدقة، فأخرجوا الصورة كما يريدونها، صورة الانتصار والدعم للمقاومة والإصرار على إعادة ما تهدم، وكله «فدا المقاومة». في بيت حانون، سرعان ما يخطر على بال من يدخل مشارف البلدة توصيف «جنون إسرائيلي» من هول الدمار والتخريب الذي خلفته الآلة الحربية الإسرائيلية بعد حصار لها دام أكثر من 27 يوماً.
الغالبية العظمى من المباني دمرت بشكل كامل وسويت بالأرض، والباقي منها حظي النصيب الأكبر منها بضرر يحول دون رجوع أهلها إليها بسبب الأضرار.
كل شارع في بيت حانون يرمز الى عشرات الحكايات والقصص التي تروي همجية المحتل، في وقت ترك فيه أهالي البلدة منازلهم هرباً من الموت بعدما عاشوا ليالي يتضرعون إلى الله أن يحميهم من جنون الجنود الإسرائيليين المتمركزين على الحدود الشرقية للبلدة.
منذ صباح أمس، سارع أهالي البلدة إلى زيارتها يتفقدون منازلهم، لعلهم يجدون بقايا يمكن العودة إليها بدلاً من مراكز الإيواء التي لم تشبعهم من جوع ولم تحمهم من قصف ولم تق أطفالهم شر الأمراض، ولكن هيهات لهم ذلك، فالمشهد كان أفظع مما تصوروا، وآلامهم ازدادت، وخاصة أنهم باتوا متأكدين من أن لا مأوى لهم بعد اليوم.
شادي المصري (30 عاماً) متزوج بامرأتين وله 11 طفلاً، يعيش مع عائلته المكونة من 30 فرداً في شارع المصريين في البلدة. يعيش في شارع اندثر. مع الهدنة، عاد إلى منزله وحيداً ليتفقده. وقف من بعيد ينظر إلى بيته بحسرة، فهو لم يعد كما تركه، بات كمثل بقية المنازل، أجزاء رسم!
رافقته «الأخبار» أثناء دخوله إلى ما بقي من منزله، غير أن ركام الأحجار والدمار الكبير يعرقلان كل حركة. راح أبو عودة يشرح لـ«الأخبار» أن «إسرائيل لم تقبل أن تخرج من غزة دون أن تترك علامة لدينا بأننا سندفعكم ثمن ما فعله بنا مقاوموكم»، مشيراً إلى أن منطقته تحديداً لم يكن فيها أي مقاومة، وأن جميع سكانها مدنيون.

لا تختلف كثيراً حال أهالي البلدة الذين راحوا يصافحون بعضهم بعضاً، مهنئين أنفسهم إما بالشهادة التي حظي بها أبناؤهم، أو بالسلامة التي غنم بها آخرون.
وكان في البلدة مندوبون عن وزارة الداخلية حذروا العائدين من المكوث في المنازل، حيث بقيت قذائف وصواريخ لم تنفجر.
أما مندوبو وزارة الخارجية، وتحديداً لجنة إعادة إعمار غزة فراحوا يرصدون الأضرار ويوثقونها، رافضين الإدلاء بأي تصريحات «فلا أوامر بأي تصريحات في هذا الوقت»، وفق ما قال أحد المندوبين لـ«الأخبار» التي حاولت معرفة بعض التفاصيل بشأن الإعمار.
في رفح (الأناضول)، تكرر مشهد بيت حانون. بيوت سوّيت بالأرض، ومعالم تغيرت.
محمد الهسي، (66 عاماً) زار منطقته التي كان يقطنها قبل حرب الـ 30 يوماً، حبس أنفاسه، وبدأ الصراخ بشكل «هستيري»، قائلاً: «أين هو بيتي؟ لا يمكن أن يكون كومة الركام هذه».
بحث الهسي عن علامة تدلّه على بيته، لكن محاولاته لم تنجح، فقد دمرت الغارات الإسرائيلية الشجرة التي كانت تظلل مدخل المنزل، واختلطت بركام منزله.
مشاهد مدينة رفح كانت أشبه بآثار زلزال عنيف ضرب المنطقة، فالجيش الإسرائيلي أصاب كل شيء، حتى أشجار الياسمين التي كان الهسي يزرعها لتعطي المنزل رونقاً وألقاً.
يضيف الهسي، وهو يلتقط مفاتيح بيته بيده اليمنى، ويشير باليسرى: «هذا بيتي تحول بكل أثاثه إلى كومة مسحوقة من الركام، لم يبق سوى حجارة... ذكرياتي دمرت. منطقتي كان تعج بالحركة والنشاط والحياة، والأن أصبحت صحراء. صورة لم أكن أتوقعها يوماً ما». وأكمل «أصبحنا مهجرين لا مأوى نرقد فيه، ولكن رغم الاحتلال، سننصب خياماً ونقيم فيها لحين بناء بيوتنا كما كانت وأفضل».
لم يكن الهسي الوحيد الذي دمر بيته، فالعشرات من المواطنين فقدوا بيوتهم وأطفالهم، ومصدر رزقهم.
ومع بدء سريان التهدئة «الإنسانية» في قطاع غزة، رصدت وكالة «الأناضول» فرحة الصيادين برحلة إبحارهم نحو الأمواج، وهم يلتقطون صيدهم الثمين من الأسماك الذي غاب عنهم طيلة أيام الحرب. «إنّها سمكة»... يصرخ الطفل الغزاوي، محمد بكر، فرحاً، ويرتفع صوته منادياً على والده، كما لو أنه عثر على كنز ثمين.

أبحر صيادو غزة
في موج «التهدئة»
لأول مرة منذ شهر


يرفع بكر (11 عاماً) صنّارة الصيد، التي التقطت سمكة من شاطئ بحر غزة، في مشهد افتقده خلال أيام الحرب الإسرائيلية الماضية على قطاع غزة. يضع الطفل السمكة في إناء بلاستيكي صغير، غمره بقليل من مياه البحر، وبعد دقائق يصيح بفرح أكبر، وهو يلتقط سمكة ثانية، فثالثة.
وعلى مقربة منه، بدأ والده الصيّاد إبراهيم (45 عاماً)، بصحبة العشرات من الصيادين في تحريك مراكبهم، وقوارب صيدهم نحو شاطئ غزة، لأول مرة منذ بدء الحرب الإسرائيلية على القطاع في السابع من تموز الماضي.
يرمي إبراهيم شباك الصيد في عمق البحر لالتقاط الأسماك في صورة وصفها بأنها «قمة الحنين بعد غياب طال لأسابيع وأيام».
كل ذلك ترافق مع تحسن طفيف شهدته خدمات الكهرباء، والمياه في قطاع غزة، بعد ثمانية أيام من استهداف الطائرات الحربية الإسرائيلية لمحطة توليد التيار الكهربائي الوحيدة في قطاع غزة، بالتزامن مع قصف خطوط الكهرباء القادمة من إسرائيل.