الكتابة عن رهيف فياض، ليست بالأمر بالسهل، فحياة الرجل خصبة بإنجازات ومواقف وقناعات لا يمكن حصرها بمقال أو ببحث. هي أشبه ما تكون بكتاب يحتوي فصولاً متعددة، يستحيل أن نقتطع فصلاً واحداً أو أكثر، لنسلط الضوء عليه، فكل الفصول في كتاب حياته مترابطة بشكل متين مع بعضها إلى درجة التكامل، الأستاذ الجامعي، والمفكر، والسياسي، والملتزم خط المقاومة، والمنظّر في الثقافة والمعرفة، والمعماري المتميز، والإنسان الراقي، والوطني العروبي.كل هذه الصفات معاً تشكل رهيف فياض، حيث لا يمكن انتقاء صفة من هذه الصفات لتقييم الرجل، هو يشبه لحناً جميلاً متكاملاً وكل نوتة فيه تكمل وتتكامل مع باقي اللحن، حيث لا يمكن المرور عنها أو إهمال إحداها.
ثم رافقته زميلاً في الجامعة، وأثناء إدارتي لكلية العمارة، كان رأيه في كل أمر يتعلق بالمسار الأكاديمي هو البوصلة التي لا تخطئ. وأعتز بأنني من الدائرة الضيقة لأصدقاء فياض، وأعتز أكثر بصداقتي الشخصية والعائلية لرجل تتلمذت على يديه.
ما يقارب الأربعين عاماً، عجزت فيها السنون أن تؤثر في قناعاته والتزاماته الثابتة، باتت قناعاته تشبه وتداً انغرس في الأرض، تستحيل زعزعته. هذا فارس لا يشيب ولا يترجّل، نهر غزير لا يجفّ مهما تعرّج بين الصخور خلال رحلته الطويلة نحو البحر، بل على العكس، يزداد غزارة، في المعرفة والفكر، هو لا يشبه سائر الأنهر التي يخف دفقها كلما اجتازت مسافة، أو قطعت منحدراً، بل هو نهر استثنائي من المعرفة يزيده الزمن تدفّقاً وتوهجاً.


في الجامعة، كنا نعتبره فيلسوف العمارة، لا يفصل العمارة كاختصاص عن جوهرها وبعدها الإنساني والمجتمعي، هي لغة في خدمة الإنسان، ولخدمة الإنسان، يجب أن تكون مرآة لبيئته وثقافته، وحتى لتاريخه.
يقول رهيف فياض، لا شيء اسمه بناء أو عمارة بالمطلق، لا عمارة في اللامكان، العمارة هي في مكان يختزن ثقافة وتاريخاً وإنساناً، ولا يمكن إسقاطها من أعلى، لتهبط هجينة من دون هوية أو انتماء إلى البيئة الموجودة. والعمارة ابنة البيئة الحاضنة، ومفرداتها ابنة اللغة المتداولة.
خاض حروباً كثيرة، من دون أن يحمل سلاحاً، لكنه كان دوماً متسلّحاً بالموقف والحجة والمعرفة، لعل حربه ضد مشروع «سوليدير» كانت الأشد شراسة، حين شاهد شركة متوحّشة تبتلع تاريخ المدينة وذاكرتها، بعدما اقتلعت أصحاب الحقوق فيها، ولفظتهم خارجها، شاهد تلك المساحة التي كانت يوماً مكان التقاء وجمع، تجمع كل الطبقات، من المهمّشين والفقراء والعاملين المنهمكين وراء قوت يومهم، الباحثين عن الغد والأمل، إلى الطبقات العليا، والمتوسطة، كانت تلك المساحة اسمها «البلد» لأنها كانت تختصر كل البلد، بكل فئاته، شاهدها تتحول إلى مدينة لقّبها يوماً بمدينة الأشباح، مساحة لا نبض فيها ولا حياة، أبنية مضاءة من فوق، يلتهمها الظلام من تحت، مدينة تم تجويف ذاكرتها، واقتلاع تاريخها، وتحويلها إلى أسهم تجارية، مدينة فقدت أهلها، وساكنيها وهويتها، باتت من دون إخراج قيد، أو هوية، تم شطرها بسكين حادّ، أصبحت رمزاً للافتراق، بعدما كانت لزمن طويل رمزاً للالتقاء.
رهيف فياض المعمار الملتزم بقضايا الأمة، شاهد اندثار المدينة، التي اختزنت تاريخاً عريقاً، وتراثاً وأحداثاً انطبعت في ذاكرتنا. مَن منّا لا يتذكّر أسواقها القديمة، ودكاكينها التي تفوح منها رائحة التاريخ وألقه؟ مَن منّا لا يتذكر أصوات الباعة المتجولين، مقاهيها ودور السينما والمسارح؟ مَن منا لا يتذكر كل أعراق البشر، التي كانت تجد في المكان مصدر عيشها، وتلك الأسواق التي تحتوي على كل ما يخطر في بال، أو ذاك الازدحام الشديد للمارّة والزائرين حيث كانت الأكتاف تتلاصق. كنا نسمع نبض قلوب المارّة لكثرة الزحمة، ولكثافة الزائرين، باتت تلك المساحة مدينة لمومياءات منتصبة، فارغة، تظللها خيالات لبعض المارّة ليلاً، مدينة تكاد تشبه أفلام الرعب، باتت المدينة مقفرة، فارغة، عاجزة، مشلولة وحزينة.
أبدع رهيف فياض واستفاض بما يملك من ثقافة في حربه ضد الشركة المتوحّشة، صحيح أن العين لا تقاوم المخرز، غير أن الرجل أبى أن يستسلم أو أن يترجّل عن حصانه، أو أن يسلم سيفه.
قطع المدينة طولاً وعرضاً، على قدميه، بات مؤهلاً لدخول موسوعة «غينيس» إن نحن أحصينا الكيلومترات التي قطعها على قدميه وهو يرصد كل زاوية في المدينة، لا أستبعد أن يكون قد زار بلدته الكورة، مشياً على قدميه، لعله ينتمي إلى تلك السلالة التي كانت تُلقب بـ«المشائين»، وأجزم أنه يستحيل العثور على سائق تاكسي واحد، يدّعي أنه استفاد من رهيف فياض بليرة واحدة. لم يترك نافذة أو شرفة منزل، أو جداراً أو بناءً في حي أو زقاق، إلا ومسحه بعينيه، مستغنياً عن كل تقنيات علم المساحة. كتب عن المدينة وشوارعها كمن يكتب شعراً، أحصى أعمدتها وهياكلها، ومواد بنائها. كان التاريخ يشدّه، والأبنية التراثية تجذبه، فيتغزل بها، بلغة راقية جميلة، انسيابية، لكنها عميقة بمفرداتها التي يبرع رهيف فياض في اختيارها، وترويضها، خدمةً للمعنى المراد، مفردات تشبهه إلى حد بعيد، برصانتها ورقيها.
إياك أن تبدأ بقراءة ما يكتب رهيف فياض، إن لم يكن لديك متسع من الوقت، أو في أيام العطلة، فهو سوف يستدرجك ويستنزف وقتك لأنك سوف تقع في فخ كتابته اللافتة، ولن تستطيع أن تتفلّت منها أو أن تتحرر قبل أن تستكمل قراءة كل نصه.
معركة أخرى خاضها رهيف فياض بقلمه، وعينه الثاقبة الناقدة، تلك التي تطاول ما لقِّب غباءً بالعمارة الحديثة. أجسام حديدية، مغلّفة بالزجاج، تشبه صواريخ انطلقت من منصات مبعثرة بين الأحياء، اخترقت فضاء المدينة واغتصبته، بعثرته، وشوّهته، جعلت من المدى الذي كان فسيحاً، نقياً، شاسعاً إلى فضاء بات منتفخاً، متقطّعاً، اخترقته بعدائية تلك الأجسام الغريبة، كأنها قد سقطت من كواكب خارجية، لتدوس أو تحجب تلك المنازل الجميلة التراثية التي كانت تنزوي بخجل داخل الأحياء الهادئة. أحسن رهيف فياض حين شبّه تلك الشقق الزجاجية المعلّقة في الفضاء بزنزانات طائرة تلامس السحاب، أو بأقفاص عصافير ضائعة فوق المدينة، لا يعرف سكانها محيطاً أو حياً، أو جاراً، هم منفيون في السماء، كأنهم ينفذون عقوبة بالنفي الطوعي.
في الجامعة، كنا نعتبره فيلسوف العمارة، لا يفصلها عن جوهرها وبعدها الإنساني والمجتمعي


في مراحل مختلفة، كان لرهيف فياض مئات المقالات والأبحاث التي أضاف بها إلى العمارة معانيَ لافتة، بمضمونها الإنساني والاجتماعي، وكانت مساهماته في «هيئة المعماريين العرب» لافتة ومتميزة.
هو من ابتكر للعمارة لقباً جديداً «العمارة المقاوِمة»، واستطاع أن يحول هذه التسمية إلى فعل حقيقي حين جعل من عمارته، بعد حرب تموز، نموذجاً لمعنى العمارة المقاومة مع شركة «وعد». أعاد إعمار ما تهدّم، لبس رهيف فياض زي المعماري المقاوم، هذا رجل لديه القدرة على أن يستولد الأحلام، ويجهد في تحويلها لاحقاً إلى فعل حقيقي. يسكنه قول غرامشي: «تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة». فعلاً يستحق عن جدارة أن يكون رهيف فياض المعماري المقاوم، ولا أستبعد أن يطوّر مفهوم العمارة أو معنى العمارة إلى حد أنّ تصبح يوماً «العمارة المقاتلة».
رجل يجيد تطويع لغته، وترويض مصطلحاتها بهدف وضعها في خدمة قناعاته الراسخة، أنَّى لهذا الرجل الثمانيني القدرة على استيلاد الأحلام، دليلاً على ذلك وأثناء تكريم له، خاطب الرجل الحاضرين في تكريمه، أنه رغم تجاوزه الخامسة والثمانين، فإنه ينظر إلى السنوات العشر القادمة (نأمل أن تكون مضاعفة) بأنها السنوات التي سيقدم فيها إبداعات جديدة وإنجازات إضافية.
رهيف فياض هو المتبقّي لنا مَن زمن مضى ولن يعود، أغنى أجيالاً من الطلبة، بالمعرفة، أعطى للالتزام الوطني معنى راقياً ونبيلاً، إن كان لاختصاص العمارة سحرٌ وألق، عليك أن تبحث عن رهيف فياض.

* دكتور في الهندسة والمدير السابق لكلية العمارة والفنون الجميلة