لم تكن «بروفة الحرب» التي تلت زيارة نانسي بيلوسي الصيف الماضي إلى تايبيه، كافية لمنع رئيسة تايوان من الإعلان أخيراً عن نيّتها زيارة الولايات المتّحدة، خلال رحلة خارجية لها إلى أميركا الوسطى. ويبدو أن المخاطرة مدفوعة هذه المرّة بمخاوف من جهة تايوان التي تخسر «حلفاءها» تباعاً، وتجد نفسها مضطرّة إلى التقرّب أكثر من الولايات المتّحدة التي لم تعُد تبريراتها إزاء استفزازات كهذه تجد آذاناً صاغية لدى بكين.في آب الماضي، عقب زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي آنذاك نانسي بيلوسي إلى تايوان، أطلقت الصين أكبر مناورات عسكرية لها تاريخياً في محيط الجزيرة، وسط مخاوف من أن الزيارة قد تؤدّي إلى عواقب «غير محدّدة»، وانجرار النزاع بين بكين وواشنطن إلى مستويات غير مسبوقة. واليوم، يجد العالم نفسه مجدداً أمام سيناريو من هذا النوع، عقب إعلان رئيسة تايوان، تساي إنغ-وين، نيّتها زيارة الولايات المتّحدة، حيث ستتوقّف في نيويورك قبل استكمال رحلتها إلى غواتيمالا وبيليز لـ«شدّ الأواصر معهما»، وهما اثنتان من الدول المتبقّية التي تعترف بعلاقات ديبلوماسية مع الجزيرة حول العالم، بعد إعلان هندوراس هذا الشهر فكّ الروابط معها لإنشاء علاقات مع بكين، ما خفّض حصيلة الدول التي تربطها أواصر ديبلوماسية بتايبيه إلى 13 دولة فقط. وفي حين ستزور تساي لوس أنجليس في طريق عودتها، فاقمت الأنباء عن لقاء محتمل سيجمعها برئيس مجلس النواب الأميركي الحالي، كيفن ماكارثي، في كاليفورنيا، غضب بكين، التي أكّدت أنّها ستتّخذ «تدابير حازمة» في حال حصولها.

السردية الأميركية المعتادة
تُدرك واشنطن أن زيارة كهذه قد تدفع ببكين مجدّداً إلى إطلاق مناورات واسعة حول الجزيرة، في وقت يوحي المشهد في مضيق تايوان بأن الصين وتايوان والولايات المتحدة تعدّ جيوشها لصراع محتمل مقبل، في خضمّ تحذيرات مستمرّة، ومن بينها التحذير الذي جاء على لسان رئيس «برنامج المحيطين الهندي والهادئ» في مؤسسة «صندوق مارشال الألماني»، في حديث إلى صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية، من «انفجار الوضع في وجه الجميع»، في حال لم يتمّ التعامل مع هبوط تساي في الولايات المتّحدة «بحذر».
ومرّة جديدة، تمسّك المسؤولون الأميركيون بسرديتهم المعتادة حول مثل هذه الزيارات المستفزة، إذ نقلت صحيفة «واشنطن بوست» عن مسؤول في الإدارة الأميركية قوله إن «الولايات المتحدة تعارض أيّ تغييرات أحادية الجانب للوضع الراهن من قِبل أيّ طرف»، وإن واشنطن «لا تدعم استقلال تايوان، وتتطلّع إلى حلّ الخلافات عبر المضيق بالوسائل السلمية». كما برّرت وزارة الخارجية الأميركية مجدّداً هذه الزيارة بأنّها تندرج في إطار «محطّات التوقف»، وهي التسمية الرسمية لبعض الجولات وفق اللغة الديبلوماسية الدقيقة الهادفة إلى الحفاظ على التوازن بين الولايات المتحدة والصين وتايوان، والتي يقول مسؤولون في إدارة بايدن، في إطارها، إن الرؤساء التايوانيين أجروا العشرات من تلك الجولات على مرّ السنين، من بينها ما قامت به تساي بذاتها، ولم يقابَل، على حدّ تعبيرهم، بـ»معارضة صينية تُذكر».
منذ تولّي تساي الرئاسة عام 2016، بلغ عدد الدول التي قطعت علاقاتها الديبلوماسية مع تايوان، واعترفت بالعلاقات مع الصين حصراً، تسع دول


«برميل بارود»
بيد أن التقليل من أهمية هذه الزيارة لم يكفِ للتخفيف من حدّة غضب بكين وتصعيد خطابها في وجه واشنطن وحليفتها. إذ نقلت صحيفة «غلوبال تايمز» الصينية عن المتحدثة باسم «مكتب الشؤون التايوانية» في بكين قولها إنه في حال حصول لقاء بين تساي ومكارثي، فسيكون ذلك بمثابة استفزاز ينتهك بشكل خطير مبدأ «الصين الواحدة»، ويقوّض سيادة الصين وسلامة أراضيها، ويضرّ بالسلام والاستقرار عبر مضيق تايوان، مشيرةً إلى أن بكين ستتّخذ «تدابير حازمة للرد». كما ترى الصين أن عبور تساي عبر الولايات المتحدة هو في جوهره عمل استفزازي، «يندرج ضمن المساعي لاستقلال الجزيرة بالاعتماد على واشنطن»، والبحث عن فرص للترويج لفكرة انفصال تايوان على صعيد المجتمع الدولي، ومحاولة استجلاب الدعم من القوات المناهضة للصين في الولايات المتحدة، حاثّةً واشنطن على الامتناع عن ترتيب مثل هذه الزيارات أو أيّ لقاءات مع أيّ مسؤول أميركي. ولفت المكتب إلى أن الجو العام لدى غالبية سكان الجزيرة يعكس شكوكهم حول أن واشنطن تستعملهم كـ«ورقة»، ومخاوفهم ممّا سيحصل مستقبلاً، معتبراً أنه إذا كان الحزب الحاكم في تايوان «يحبّ تايوان حقاً، فلن يمنح للسياسيين الأميركيين شرف تدمير الجزيرة، ويهدر الأموال التي يجمعها الشعب من عرق جبينه لشراء أسلحة من الولايات المتحدة بأسعار مرتفعة، بهدف تشجيع الانفصاليين»، وتحويل تايوان إلى «برميل بارود».

لمَ الإصرار على الزيارة؟
قبل مغادرتها، أكدت تساي للصحافيين في المطار أن «الضغط الخارجي لن ينال من عزيمتها»، مضيفة أنها لن ترضخ للتهديدات ولا تهدف إلى استفزاز أطراف أخرى. ويمكن فهم الإصرار على زيارة كهذه من خلال النظر سريعاً في تطوّر العلاقات بين تايبيه وحلفائها، وهم بمعظمهم من الدول الجزرية الصغيرة في المحيط الهادئ وأميركا الوسطى. فمنذ تولّي تساي الرئاسة عام 2016، بلغ عدد الدول التي قطعت علاقاتها الديبلوماسية مع تايوان، واعترفت بالعلاقات مع الصين حصراً، تسع دول، آخرها هندوراس، تزامناً مع ازدياد نفوذ بكين واستثماراتها في أميركا الوسطى بشكل كبير. وتُدرك الصين هذا الواقع جيداً؛ إذ يرى مثلاً الأستاذ المشارك في جامعة العلاقات الدولية في بكين، تشونغ هوتاو، في مقابلة مع وسائل إعلام حكومية، أن «نهاية العلاقات بين تايوان وهندوراس تكشف تراجع نفوذ واشنطن في أميركا اللاتينية، حيث تبرز الدول غير المستعدّة للسير خلف الولايات المتحدة».
كما يرى مراقبون أنه سيتمّ التعويض عن خسارة تايوان لعلاقاتها الرسمية مع دول أخرى من خلال تعميق علاقاتها «غير الرسمية»، في إشارة طبعاً إلى الولايات المتحدة، الحليف الأكبر للجزيرة ومزوّدها الرئيسي بالأسلحة، ما يبرّر مخاطرة تساي بالقيام بمثل هذه الزيارات في أوقات حرجة كهذه.