انتصار مدوٍّ صنعه الجهاديون، وبات اليوم يخشى عليه من الساسة. بوادر خلافات تنسل إلى داخل الصف الفلسطيني، الذي بدا موحداً في المفاوضات السياسية في القاهرة، وتتهدد قضيتي إعادة الإعمار ومعبر رفح. البداية كانت في ما سرّبته شبكة أوراق الإلكترونية المقرّبة من «حماس»، مروراً بخطاب رئيس المكتب السياسي للحركة خالد مشعل أمس، قبل أن يختتمها الرئيس محمود عباس في مقابلة مسجلة بثتها القنوات الفلسطينية مساء.
فصول كبيرة من الخلاف الفلسطيني الداخلي تسبّبت فيها «التجاذبات الإقليمية» و«تلقّي الأوامر من الخارج»، على حدّ وصف أبو مازن، تشي بأن المباحثات لم تكن «لطيفة» في الدوحة والقاهرة، وأن شكل الوفد الموحد لم يخف وجه الأزمة السياسية التي سبقت الحرب. وبات المشهد الفلسطيني السياسي مرشحاً لانقسام حاد بدأ في طريقة الاتفاق على إنهاء الحرب، وأحد لا يعلم كيف سينتهي.

أكد خبراء إسرائيليون
أن إسرائيل بدت عاجزة وغير مبدعة

ما كشفته «أوراق» عن الاجتماع الذي تلى إعلان عباس التهدئة قبل أيام، جاء مطابقاً لحديثه التلفزيوني، فهو صبّ غضبه على «حماس» لعدة قضايا، كان منها ما سمّاه «اتخاذ قرار السلم والحرب» و«إمكانية إنهاء الحرب من اليوم العاشر بالموافقة على المبادرة المصرية التي لم يتغيّر منها شيء بعد أربعين يوماً»، إضافة إلى «إبلاغ حماس له أنها غير مسؤولة عن عملية الخليل (أسر وقتل ثلاثة مستوطنين) ثم الإقرار بها».
وبعدما لمّح أبو مازن إلى اعتراضه على مجمل القضايا في غزة، منها إعدام العملاء في الشارع ووصفها بالجريمة، ذهب إلى التحذير من انهيار المصالحة في حال لم ينجح «الاختبار» الذي ستوضع فيه «حماس» بشأن كيفية التعامل مع حكومة الوفاق الوطني ومساحة الصلاحيات التي ستعطى لوزاراتها وطواقمها التنفيذية، خاصة في قضية المساعدات التي غمز من قناة الحركة بأنها سرقت جزءاً منها، أو قضية إعادة الإعمار وإشراف «الوفاق» عليها.
وكان أكثر ما لفت في حديث أبو مازن ما بدا محاولة منه لتحريض الغزيين على «حماس»، في إشارته الى أن المساعدات التي ترسل تباع في السوق السوداء، وفي تحييده لمصر عن كل السلبيات، وبينها معبر رفح الذي رأى أن اتفاق عام 2005 حوله كان بين السلطة وإسرائيل والاتحاد الأوروبي، ولم يكن للقاهرة أي شأن فيه.
وكما يظهر من هذا المشهد، ووفق ما تحدثت به مصادر من «حماس» و«الجهاد الإسلامي» لـ«الأخبار» عن الساعات الأخيرة للاتفاق، فإن تكثيف إسرائيل قصفها في غزة خلال الأيام الأخيرة واستهداف الأبراج، كانا يهدفان إلى حصر خيارات الحركتين والموافقة على وقف الحرب من دون الحصول على موافقة مبدئية على الميناء البحري. وبذلك يتجمع «ثالوث» السلطة والقاهرة وتل أبيب على احتواء مفاعيل النصر الميداني للمقاومة. لكن لا يخفى أن وجود «حماس» في محور من التقاطع الإقليمي المشحون زاد تعقيد الاستفادة من إنجاز المقاومة.
وبالإشارة إلى حديث مشعل، فإنه حمل دلالات واضحة على الإنجاز الذي صنعته المقاومة في غزة، واعداً بالحفاظ على سلاح المقاومة، كما أكد أنها لن تتنازل عن الميناء والمطار، وستواصل العمل لانتزاعهما. وشكر رئيس المكتب السياسي لـ«حماس» عدة أطراف سياسية وإعلامية، منها رئيس تونس الذي وصفه بالرئيس الثائر، ورئيس وزراء ماليزيا، ودول أخرى وصفها بالداعمة، وأمير قطر الذي نعته بالشجاع، كما لفت إلى جهد قناة «الجزيرة» في تغطية الحرب، قبل أن يستدرك: «تلقينا اتصالات تضامنية من إيران»! وبينما ينتظر مؤتمر الإعمار حتى الشهر المقبل، فإن إعادة بناء غزة ستبقى رهينة التفاهم السياسي بين «فتح» و«حماس»، وهنا يسعى رئيس السلطة بوضوح إلى استثمار الأزمة من أجل طلب دولة على حدود 1967 عبر مجلس الأمن. أما المجلس الذي أبدى عباس رفضه للمبادرة الأوروبية فيه بشأن غزة، فأعلن أن مشروع قراره (قدمته ألمانيا وبريطانيا وفرنسا) قائم «لكن لا يوجد وقت محدد للتصويت عليه».
على الجانب الإسرائيلي (علي حيدر)، وبعد المحاولة الفاشلة التي نفذها رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو وطاقمه لتقديم صورة نصر مقنعة، اشتدت المعركة على الوعي بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، وبعبارة أدق بين المقاومة من جهة، والثلاثي الذي أدار الحرب على قطاع غزة، نتنياهو ومعه موشيه يعلون وبني غانتس من جهة مقابلة. مشكلة الطرف الأخير أنه في ظل عجزه عن إقناع الداخل الإسرائيلي بروايته للمعركة، فمن الأولى أن يكون أعجز عن إقناع الشارع العربي بانتصاره المزعوم. وبالنسبة إلى صانع القرار في تل أبيب، فإن هذه القضية على قدر من الأهمية، لأنها ذات صلة مباشرة بنظرة الآخر (الفلسطينيين) إلى الاسرائيلي، ولا سيما قدراته الردعية.
في سبيل ذلك، توالت ردود الفعل الإسرائيلية على «خطاب النصر الهزيل» الذي بث أول من أمس، وذلك بين جمهور لم يشتر الرواية التي حاول الثلاثي المذكور تسويقها، وسياسيين يواصلون تصويب السهام، إما انطلاقاً من تقدير مغاير لما جرى، وإما على خلفية الانتهازية السياسية، كذلك كان هناك معلقون وخبراء يؤكد معظمهم، بطريقة أو بأخرى، أن إسرائيل بدت عاجزة ومترددة وغير مبدعة.
عبَّر الجمهور الاسرائيلي بوضوح في استطلاعات الرأي عن موقفه من رواية نتنياهو وطاقمه، فأكد نحو 60% منهم أن إسرائيل لم تنتصر في الحرب، ومنهم 16% رأوا أن المقاومة هي التي انتصرت، والباقون (54%) قالوا إن أحداً لم ينتصر في الحرب، فيما اقتصرت النسبة التي صدقت رواية النصر الإسرائيلية على 26%. مع ذلك، كشفت الاستطلاعات نفسها نتائج مثيرة للتساؤل، وقد تؤشر على ضيق الخيارات الماثلة أمام الجمهور، إذ إنه في الوقت الذي يرى فيه أكثرهم أن إسرائيل لم تنتصر، أعرب 50% عن رضاهم عن أداء نتنياهو في مقابل 41% كانوا على النقيض، وهي نتيجة لا تزال مرتفعة، رغم أنها مثّلت تراجعاً عن نسبة التأييد قبل الحرب 77%.
في السياق نفسه، أظهرت الاستطلاعات أن نتنياهو متقدم على غيره من قادة الأحزاب من حيث ملاءمته لرئاسة الحكومة، فهو حظي بتأييد هنا بنسبة 42%. فضلاً عن النتائج التي أظهرت أنه لو جرت الانتخابات اليوم، لتمكن الرجل من إعادة تشكيل الحكومة.
في ما يتعلق بتفسير هذا التناقض، رأت صحيفة «هآرتس» أن ذلك يعود إلى أن الجمهور يرى حتى الآن أنه لا بديل من نتنياهو رئيساً للحكومة، كما أن المزاج العام لا ينعكس أحياناً، وفق «هآرتس»، بصورة فورية في الاستطلاعات، بل قد يتأخر إلى وقت لاحق.
على المستوى السياسي، لم يسلم نتنياهو من الانتقادات القاسية والمشككة، من داخل الحكومة أو من حزبه، فضلاً عن المعارضة اليسارية، وذلك استكمالاً للمواقف التي أطلقها شريكاه في الائتلاف الوزيران أفيغدور ليبرمان ونفتالي بينيت. وأمس، رأى وزير المالية يائير لابيد أن عملية «الجرف الصامد» لا يمكن أن تنتهي بوقف إطلاق النار، مؤكداً ضرورة مواصلة الجهود، وصولاً إلى تجريد قطاع غزة من السلاح.
(الأخبار)