لا يشبه كارلوس ساورا أحداً حين يتحدّث عن «الرقص». المخرج الشهير قرر ذات ليلةٍ أندلسية إعداد أفلام عن الرقص: التانغو، الفلامنكو وأنواع أخرى. والرقص عنده يصبح «رقصاً» مطلقاً مذهلاً، لا أهمية فيه للقصة، أو للحبكة، والدراما. الأهم هو إظهار الرقص كما هو بكل «مباشرته» و«نقائه».
لطالما عشق ساورا الرقص، وحفظ الموسيقى ورددها طويلاً ومررها في أفلامه المهمّة كـ «الصيد»، أو«نداء الغربان» (1976). هكذا قدّم أفلاماً لا تعنى سوى بالرقص كفكرة وأساس. وبرغم أن هذه الأعمال إسبانية بغالبيتها، فإن المشاهد الذي لا يتقن الإسبانية لا يحتاج إلى ترجمة. يكفيه فقط أن ينظر ويشعر، فالرقص هو الفكرة والقصة وحبكة الدراما.
عاشق التصوير الفوتوغرافي الذي احترفه بدايةً، دفعه اهتمامه بالصورة إلى التركيز على حركة الراقصين ولمسات أقدامهم وتمايل أجسادهم عوضاً عن الكلام. هكذا خلق شخصيات راقصة بامتياز: الأم التي تهزّ المهد في «عرس الدم» (1981) وتنادي طفلها الصغير، ترقص بحزنٍ شديد؛ والأغاني تجاورها على نحو مباشر. نسمع الخطوات ونراها، ويد الأم لا تزال تحرّك المهد الفارغ. المسرحية المأخوذة عن نص لوركا الذي يعرّي نظام فرانكو، تتأرجح راقصةً لتحكي قصة شعبٍ وثورةٍ بأكملها.

تطرق بحذائها الأرض،
وبقعة الضوء تتفجر أمامها

تغيب حدود الأعمار في Sevillanas. الراقصات مسناتٌ، المغنيات مسناتٌ، والدفوف تتأرجح، بينما يرقصن بفرحٍ شديد. هنا، الرقص هو الحقيقة الوحيدة المطلقة التي تمحو كل صفات الأبطال أمامها!
قد يكون الحزن الظاهر في «ايبيريا» (2005) هو الذي يجعل الراقص يتلوى ألماً وحده. تعرّيه الشاشة وتحرمه أي قدرة على إخفاء ملامحه. يأخذ الحزن حيزاً جديداً مرتبطاً فقط بحركة الراقص، فهو يمزّق نفسه وروحه كثيراً؛ بارتباط موسيقي عذب. يتضمّن هذا الفيلم مقطوعة «كوردوبا». نساءٌ يرتدين البرقع، يرقصن وليلُ الألوان الأزرق، ويتمايلن على موسيقى شرقية خفيفة، هل هن بقايا الأندلس في عقل ساورا؟ لا أحد يعرف، فالعاشق الأندلسي كما يحلو لمحبيه أن يلقبوه، يفضّل النهل من تاريخ بلاده الطويل وعلاقتها مع العرب وحضارتهم. يستعمل ساورا أصواتاً شجيةً في «فلامنكو، فلامنكو» (2010). هنا يلجأ إلى أسلوب «الحوار» الغنائي من خلال مغنيَين يتبادلان الغناء بأصوات شرقية تشبه الغجرية. يرقص الحزن كثيراً في فيلم «فلامنكو، فلامنكو» كما الفرح. ويتذاكى ساورا كمخرج كثيراً. يبعد بطلته الراقصة التي تلبس ثياباً فاتنة عن بقعة الضوء، تطرق بحذائها الأرض، وبقعة الضوء تتفجر أمامها. في Fados، يذهب نحو صورة حانيةً أكثر من غيرها؛ ترقص فتيات بالأبيض الملائكي حول المغني الأسمر الشاب. تبدو الفتيات العاريات الأقدام من طبقات راقية مع «مراوح» اليدين التي يحملنها: يرقصن وهو يغني بشجن. ماذا يقول ساورا؟ يشفي الرقص الروح، كما الغناء الشجي. لاحقاً ضمن الفيلم ذاته، تتألق الصورة أكثر وتتحدث. ماذا عن الفنون الحديثة؟ الراب؟ الهيب هوب؟ لا ينساها ساورا بالتأكيد، فهي روح الناس أيضاً، وتأتي من قلب الشارع. يصغي المخرج الكبير إلى نبض الشارع جيداً، ويعرفه، فيترك راقصيه ينسجمان مع الفن الحديث، راسماً بسهولة ابتسامةً على وجه من سيشاهد هذا المقطع من الفيلم فرحاً.