تريد واشنطن من تركيا الاستدارة نحو الغرب مجدداً، والتراجع عن سياستها وطموحها في الشرق الأوسط، بعد الفشل الذي منيت به. يظهر ذلك من مؤشرات عدة، أبرزها إقامة التدريبات المشتركة بين البحرية التركية والقوات الأميركية في البحر الأسود من أجل مساندة كييف، ما أعاد إلى الأذهان الدور الوظيفي العسكري لتركيا إبان الحرب الباردة.
وانطلاقاً من هذه الرغبة الغربية، جاء الطلب الأميركي من أنقرة التموضع في «التحالف الدولي لضرب الدولة الإسلامية» طبقاً لاستراتيجية الرئيس باراك أوباما. تريد واشنطن منها المشاركة في الحرب، عبر فتح أجوائها وقواعدها للأميركيين، تحت شعار محاربة «داعش»، الأمر الذي يضع أنقرة في موقف صعب على المستويين الداخلي والخارجي.داخلياً، المشاركة في الضربات «تحرج» الحكومة أمام محازبيها بعدما رأت أن «داعش» حركة سنية ضد استبداد رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، مقدمةً الدعم الذي بات معروفاً للمقاتلين. أما خارجياً، فهي لا ترغب في «التورط»، وخصوصاً أنها لا ترى نتائج مرجوة يمكنها أن تصبّ في مصلحتها، بعدما سعت أنقرة إلى اداء دور إقليمي يحمل مشروعاً إسلامياً «معتدلاً»، ترى في هذه الدعوة الأميركية فخاً لها.
عملت الاستخبارات التركية مع عدد من دول حلف «شمال الأطلسي»، على ضبط الحدود والمطارات على نحو غير معلن، وقدّمت تقارير في السنة الأخيرة أعلنت فيها القبض على أكثر من 830 مواطناً من البلاد الأوروبية حاولوا الدخول إلى سوريا للقتال مع «الجهاديين»، لكن تقارير استخبارية غربية تحدّثت عن أكثر من 1500 تركي يقاتلون في «داعش»، الأمر الذي نفت مسوؤليتها عنه.
تتعاون تركيا مع «الأطلسي» لكونها عضواً فاعلاً فيه، غير أن الولايات المتحدة الميركية تريد منها إلتزاما كلياً. لكن تركيا لن تدخل في حرب برّية مباشرة، فالوضع بالنسبة إليها شبيهاً بما حصل لها في العراق عام ،2003 وهي لن تورّط جيشها في حرب يراد منها إضعافها. وتعتبر أنقرة أن الحرب الجديدة على الإرهاب ليست سوى خطة عقيمة لضرب «داعش» وخلق تنظيمات مشابهة لاستمرار إستعمار المنطقة واستنزافها. لقد شاركت في الاجتماع الذي عقد في جدّة، في الذكرى الثالثة عشر لأحداث 11 أيلول، لحشد حلفاء أميركيا، وفتح أجوائها وتسخير مالها وأراضيها للاستراتيجية الأميركية غير الواضحة لضرب «داعش».
هي ترى أن واشنطن لا تملك مشروعاً للمنطقة، ولا سيما أن هذه الحرب ستمتد لثلات سنوات قابلة للتمديد، بالإضافة إلى تدريب وخلق تنظيمات جديدة، حيث ستضع الولايات المتحدة المنطقة تحت نار «داعش» أو إعادة الاستعمار، فيما يضمّ التحالف دولاً خرج منها معظم إرهابيي «القاعدة»، ولا سيما السعودية والكويت ومصر.
ما زالت الحرب ضد الإرهاب نفسها، لكن هذه المرة تحت مسمى الحرب على «الدولة الاسلامية» المدعومة والممولة من دول الخليج نفسها المنضوية في التحالف، وبموافقة ومساعدة لوجستية أميركية، أي إن الأمر أشبه بحلقة مفرغة.
تحاول الولايات المتحدة التبرؤ من مساندة «داعش»، بعدما دعمته أخيراً لإسقاط النظام السوري، ودعمت المتطرفين الإسلاميين في مناطق التوتر. وهي لم تحرّك ساكناَ إلا عند قتل الصحافيين الأميركيين، ما أقنع الرأي العام الأميركي بضرورة استكمال خطة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، برغم ادعاء أوباما بأنه لا يشبه سلفه، الذي اعلن "سنعيش عصر الحروب المتواصلة في القرن الحادي والعشرين".
لم ترتح تركيا إلى كلام وزير خارجية مصر سامح شكري، الذي ردّ الفوضى في المنطقة إلى دعم تركيا وأميركا لـ«الإسلام السياسي»، في إشارة منه إلى دعمهما لـ «الإخوان المسلمين». طلبت واشنطن من تركيا ضبط حدودها والتشدّد وعدم السماح بتهريب النفط من العراق وسوريا إلى أراضيها والمتاجرة به. أنقرة المترددة في أخذ دور في التحالف لم توقع البيان الختامي متذرعةً بالرهائن الأتراك لدى «داعش» في الموصل، لم تتعهد اغلاق حدودها وفقاً للقرار الأممي 2170 . كذلك رفضت تقديم قواعدها الجوية للتحالف واكتفت بالمساعدة الانسانية.
تقف العلاقة اليوم بين واشنطن وأنقرة على تقاطع. إما أن تخطو إلى الأمام وتتطور نحو علاقات متكاملة فيها من الشراكة ما يغير النظرة الدولية إلى دور تركيا، والانتقال إلى تعاون تجاري واستثماري، وإما أن تبقى العلاقة وظيفية استخبارية خاضعة للأوضاع غير المستقرّة. وهذا ما تشتكي منه ضمناً القيادة التركية الجديدة الساعية إلى دور إقليمي غير تقليدي.