ككل الشخصيات التي يصعب تصنيفها، والمثقفين طارحي الأسئلة المزعجة، و«الخوارج» أصحاب المسيرات الحافلة بالانعطافات والتقلبات، ورجال الدين الذين مارسوا النقد من داخل المؤسسة الدينيّة، مع ما يرافق ذلك من اقصاءات و«تكفيرات»، يمتلك السيّد هاني فحص مقوّمات البطل الرومنسي الذي يبهر، وينتزع الاحترام، ويترك بصماته على زمنه. وخصوصاً أننا نرثيه من قلب راهن حارق، يختزن رجل الدين والأدب والفكر والسياسة الراحل كل تناقضاته.
فهو «الشيعي الجيّد»، و«المسلم الذي يحب المسيحيين»، «والأربعتعش آذاري العروبي»… وغير ذلك من تنميطات واختزالات تجعل صورة الراحل مشوشة، وتجعل الفرز صعباً الآن، بين من يَدّعي حبّ الرجل ومن يُتهم بكرهه.
خلف الهالة الرومنسية، تتبدى لنا شخصية سجالية وإشكالية، لا يختزلها شعار، وإن شهدت مرحلته الأخيرة خياراً سياسياً صريحاً. وقد يتعرّف كثيرون منّا على شيء من مُثُلهم في محطات من تلك المسيرة التي تجمع التنوير والهم الاجتماعي والنضال القومي، إلى تمجيد الاختلاف والاجتهاد والانفتاح وتجاوز «الموروثات القديمة». هكذا يمكن أن نتحدث عن أنواع من الورثة لمنجز هاني فحص وتاريخه: الورثة الآنيون سيتاجرون سياسيا بصورة «رجل الدين الشيعي المعادي لحزب الله» كما ذكرت وكالة «فرانس برس». الورثة المثاليون سيمتدحون مرحلة سابقة من «الماضي الذي لا يمضي»، كما فعل الكاتب الفلسطيني يحيى يخلف، إذ قارنه بالمطران كبوجي والشيخ القسام، مستعيدا صورة السبعينيات المجيدة. يومذاك كان رجل الدين الفتحاوي الذي قاد انتفاضة مطلبية لمزارعي التبغ ضد استغلال «الريجي» (١٩٧٢)، يتدرب مع الفدائيين الفلسطينيين في معسكر «عين الصاحب» قرب دمشق، قبل أن يشبّك بين أبو عمار والخميني عشية انطلاق الثورة الاسلامية.
وهناك من سيرصدون الجذور الفقهية لباحث عن المعرفة، درس الفلسفة الحديثة في كليّة الفقه في النجف على يد أستاذ ملحد. من بغداد يعتبره الشيخ غيث التميمي: «وريث عصر تنوير الحوزات الشيعية الذي بدأ مع العلامة النائيني المطالب بالدستور المدني في اواخر القرن الـ19». وأيتام المشروع التقدمي سيتوقفون لدى صاحب «الحوار في فضاء التوحيد والوحدة»، عند صورة رجل الدين الذي تجرأ على المسلّمات، ورفض لغة اليقين، واشتغل على الحوار بين الأديان، وقبل بالعلمانية، وقال بالزواج المختلط… ودافع عن «اندماج الشيعة في أوطانهم». وهناك من سيتساءل ما الذي أخذ هذا «الولد العاملي»، الذي اقترن وعيه وتاريخه بالمقاومة، إلى معسكر الانعزاليات والرجعيات المتحالفة مع الاستعمار؟ لقد أجاب الراحل على طريقته عن السؤال، في مناسبات عدة، موضحاً لحظة القطيعة، بعد تركه إيران (١٩٨٥): «كنت راديكاليا وكبرت. توسّعت تجربتي فحصنتني من الأخطاء ومن الخيانات، وملت نحو الاعتدال». دائما نعود إلى روح الكلمات، ونحن لن نقارع فيها عالما مثل هاني فحص. «الاعتدال» إذاً؟ و«التنوير»؟ الحرب المقبلة ينبغي أن تكون ضد فصام المعاني. بحثا عن وحدة عضوية تضع المثقف التنويري في مواجهة خطاب الاستبداد والاستعمار الذي انجب التطرّف. التمرد على الدوغما فعل مقاوم لا ينفصل عن مواجهة اسرائيل ومشروعها. هل هجر السيد هاني رحمه الله ذلك الخندق، ام انه خندق يضيق بالتنوير؟