غزة | «شقق سكنية ومكاتب للإيجار»، لافتة كبيرة علقها سالم أبو سليم على مدخل بنايته التي يمتلكها، وسط غزة، مذيلة برقم هاتفه للتواصل معه. ما إن يأتي أحد يسأله عن شقة يبادره هو بالسؤال :«انت حماس، جهاد، ألوية الناصر، يعني من الآخر الك علاقة بالمقاومة؟!»، فإن كانت إجابة المستأجر «لا»، سيكون محل بحث عن سيرته الذاتية، وفي حال صِدق حديثه يصبح آهلاً للسكن في البناية. أما إن ثبت العكس، فسرعان ما يسمع الإجابة من صاحب العقار السكني: «آسفين، ما عناش شقق للإيجار».

يتحدث أبو سليم وهو يبرر ما يفعله بالقول: «لا أستطيع أن أسكِن أحداً من المقاومة في عمارتي التي استغرقت 20 عاماً في بنائها، وتغربت في دول الخليج كي أؤمن سعرها حتى تكون مستقبلاً لأبنائي». لكنه يؤكد أنه يحيي المقاومة، ومع ذلك «لست قادراً على دفع ثمن باهظ وتضييع سنوات عمري، خاصة أن لا أحد يصدق في إعادة الإعمار».
هذه التجربة تتكرر مع كثيرين، إذ تبوء محاولات عائلات فقدت منازلها في الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، بالإخفاق في بحثها عن منازل للإيجار تؤويهم وأطفالهم من التشرد بين مراكز الإيواء والخيام. ومنهم أبو محمد (اسم مستعار)، وهو أحد كوادر سرايا القدس، الجناح العسكري لحركة «الجهاد الإسلامي»، من حي الزيتون جنوب مدينة غزة. أبو محمد اضطر إلى أن ينصب خيمة فوق ركام منزله الذي سُوي بالأرض بعد أن أغارت عليه الطائرات الحربية الإسرائيلية بداية الحرب».
ويعبر الرجل عن شعوره بالحزن الشديد بسبب رفض أصحاب العقارات تأجيره، مشيراً إلى أن بعض الذين خجلوا من رفض طلبه الاستئجار مباشرة عرضوا عليه سعراً عالياً للتأجير حتى يعجز عن أخذ الشقة، مع أنه يؤكد أنهم يتوسلون بعض أصحاب العقارات لترك عائلاتهم على الأقل فيها، مع إعطائهم وعداً بألا يقتربوا من تلك الشقق قابلين على أنفسهم المبيت في العراء أو أماكن أخرى.
ويضيف: «مرت علي لحظات شعرت فيها بأنني عبء على أطفالي الذين أرى الحزن في عيونهم». وفي نهاية المطاف، وجد أحد المالكين قد قبل تأجيره شقة بثلاثمئة دولار أميركي شهرياً، لوالديه المسنين فقط بشرط أن يبقيا وحدهما، فيما اضطر لأخذ زوجته وأطفاله إلى خيمة قرب بيته!
وتكاد هذه الحالة تصبح أقرب إلى الظاهرة، خاصة أن كثيرين ممن حاولوا الاستئجار أفادوا بتكرار الأمر معهم، في ظل وجود نحو عشرة آلاف منزل دمرت تدميراً كلياً. وكان الاحتلال يتعمد سياسة العقاب الجماعي، إذ يقصف بيوتاً، أو حتى أبراجاً سكنية بكاملها، بحجة وجود شقة واحدة تتبع لقيادي أو ناشط في أحد التنظيمات.
عائلة أخرى ينتمي ابنها فادي (اسم مستعار) إلى ألوية الناصر صلاح الدين (لجان المقاومة الشعبية)، وأخوه إلى كتائب القسام (حماس)، تتكون من 30 فرداً، لم تكن هي الأخرى أفضل حالاً من «أبو محمد»، فما إن حطت الحرب أوزارها حتى راح الاثنان يبحثان عن بيت للأسرة الكبيرة. بعد جهد وبحث استمر طويلاً، استأجرا شقة في برج سكني، فكانت ليلتهما الأولى هي الأخيرة في ذلك البرج، بعدما اجتمع جميع سكانه وتوافقوا على إخراج العائلة بدعوى أنهما يعرضان المكان لخطر القصف.
يعلق فادي على الحادثة بالقول: «استطاعت إسرائيل أن تهزم بعض ضعاف النفوس، وتسلبهم وطنيتهم وشهامتهم، فباتوا يفكرون في مصالحهم الشخصية»، لكنه لا ينكر أن المشاهد الأخيرة أثّرت في الناس، «مع أننا حينما نقاتل إسرائيل فإننا ندافع عن الناس أنفسهم».
ويزيد ملاك العقارات على أسباب رفضهم أن الكثير من المباني دمرت، رغم أن المستأجرين من المقاومين تركوها وغادروا قبل العدوان بأشهر أو حتى سنين، فيما أخرى قصفت للاشتباه في بعض الشقق التي كان بعض الناشطين يزورون فيها أقرباءهم أو أصدقاءهم. ووصلت حصيلة الشهداء من العائلات التي قصفت بكاملها، ضمن هذه السياسة، نحو 850 شهيداً من أصل 90 عائلة (عدد شهداء الحرب نحو 2200 شهيد).
أما إبراهيم أبو إسماعيل، وهو من كتائب شهداء الأقصى (فتح)، ففقد منزلاً من خمس طبقات كان يضم العائلة المكونة من 60 فرداً منهم إخوته وأولاده بعدما قصفه الاحتلال. هذا الرجل لم يجد سبيلاً سوى استصلاح منزل والده القديم (المهدد بالسقوط) ليؤويهم جميعاً، لأن غالبية من لجأ إليهم امتنعوا عن منحه منزلاً بالإيجار. عاد إلى ذلك البيت القديم، واستصلح جزءاً منه ليستغني كما يقول عن «إحراج العالم».
ومن بين من عانى هذا الرفض مؤسسات إعلامية كإذاعة الشعب التي كانت تبث من أحد شقق برج الباشا المكون من 15 طابقا وسوي بالأرض في آخر أيام الحرب. يقول رئيس مجلس إدارة الإذاعة، ذوالفقار سويرجو، إنهم عانوا كثيراً في البحث عن مكان جديد للإذاعة، خاصة أنهم يحتاجون شروطاً كأن تكون منطقة السكن مرتفعة عن مستوى البحر، كذلك نحتاج شقة في الطوابق العلوية مع توافر الخدمات، خاصة المصعد والمولد الكهربائي».
ويذكر سويرجو أنهم بحثوا في أبراج وعمارات سكنية كثيرة في مدينة غزة، لكنهم ما إن يجدون مكاناً تتوافر فيه الشروط، يرفض القاطنون في المكان، وأحياناً ملاكه، تأجيرهم خوفاً من «أن تكون الإذاعة سبباً في قصف البرج». وحتى يواصلوا بثهم بين أنهم قبلوا شقة من دون المعايير والخدمات المطلوبة.
ويقول مواطنون إنهم بعيدون عن النشاطات التنظيمية، لذلك اضطروا إلى الشكوى للشرطة من أجل حل هذه المشكلة، فيما لا تملك الأخيرة القدرة على إجبار مالكي الشقق على تأجيرهم سوى إمكانية الحديث الوديّ أو الإقناع.
حركة «حماس» علقت رسمياً على هذه الحالة، ووصفها عضو المكتب السياسي للحركة، موسى أبو مرزوق، بأنها «خطيرة»، قائلاً على حسابه على «الفايسبوك» إنها تمثل «عقاباً للمقاومين وذويهم على أيدي أصحاب العقارات». وأضاف أبو مرزوق، إن «من يبذلون الدم رخيصاً عوضاً عن أهليهم وأموالهم، هؤلاء لهم في أعناقنا دين كبير، وأقل ذلك احتضانهم، بل ووضعهم على رؤوسنا».