لا تكاد عكار تنجح في قطب جراحها حتى تعود وتتمزق من جديد. آخر جراحها فُتِح امس، باستشهاد الجندي جمال الهاشم (من بلدة القبيات)، برصاص مسلحين أطلقوا النار على حافلة كان يستقلها مع جنود آخرين. منذ ستة أيام ضجّت المنطقة بإعلان الجندي عبد القادر أكومي انشقاقه عن المؤسسة العسكرية، وهو الجندي الرابع من عكار الذي يفر من الجيش ويلتحق بالمجموعات الإرهابية في جرود عرسال.
ما عده كثير من سكانها «فعلا يرمي إلى ضرب معنويات العسكريين العكاريين لكي يظهر أن من بينهم من يخون الجيش». قبله بأيام، استشهد الجندي ميلاد عيسى، ابن بلدة الريحانية العكارية، برصاص مجهولين أطلقوا النار نحوه ونحو أحد رفاقه عند مدخل البلدة.
وما كادت آثار «الصدمة» تزول حتى فُجعت عكار مرة آخرى باستهداف جديد للمؤسسة العسكرية أمس، أدى الى استشهاد الجندي جمال الهاشم. وحالما أشيع خبر استشهاده على يد «عناصر إرهابية مدسوسة» على حد تعبير والد الشهيد جان الهاشم، تفجر غضب العكاريين في الشوارع. قطعت الطرقات في كل من مشحا، مشتى حمود، القبيات، البيرة وحلبا بالإطارات المشتعلة والسواتر الترابية استنكاراً للتعرض للجيش اللبناني وتضامناً معه. أغلقت كافة المحال التجارية أبوابها، وباتت الحركة في الكثير من القرى شبه معدومة. بينما تسلحت بلدة البيرة منذ ساعات الصباح الأولى بالصمت، لا مارة ولا سيارات في الطرقات. حتى كاد يخيل إلى المارين فيها أنها غير مأهولة. ما عدا ثلة من الشبان الذين عمدوا إلى إزالة الدماء من مكان الحادثة، ووضع الأسلاك الشائكة في الطريق المؤدية إلى الأحراج. رفع أحدهم ناظريه نحو الأودية وأردف «عم يغدرونا. هل يجب أن نترك منازلنا ليلاً ونحرس الأودية؟ الله يستر من الإيام اللي جاية». حاول عبدو إعادة تمثيل الحادثة بالقول «عند الساعة الخامسة فجراً استفقت على أصوات طلقات نارية كثيفة، نظرت من نافذتي. وجدت حافلة عسكرية متوقفة. فهمت على الفور أن أحداً قد أطلق النار عليها. وفق ما سمعته من بعض العسكريين فيها، فإن شخصين أطلقا النار من مسدسين حربيين باتجاهها وفرا على دراجتين ناريتين داخل الأحراج». جهد الشبان في المحافظة على هدوئهم خلال الحديث، إلا أن استياءهم كان فاضحاً. أردف أحدهم «الوضع ما عاد ينسكت عنو. نحنا ما خصنا بالإرهاب. يروحوا يشوفوا شو في بخربة داوود». استياء أهالي البيرة من محاولة البعض تصوير بلدتهم كمنطقة حاضنة للمتطرفين دفعهم إلى توجيه أصابع الاتهام إلى منطقة خربة داوود والقاطنين فيها. ولإثبات تضامنهم مع أهالي القبيات، ألّفوا وفداً وتوجهوا إليها للتعزية باستشهاد الهاشم. على لسان أحدهم، أكدوا أن «كل ما يصدر من أفعال لا يمثل أبناء البيرة، ولا سيما أن معظم شباب البلدة هم عناصر في الجيش اللبناني. ونحن نطالب بإلقاء القبض على الفاعلين، بعدما باتت تلك الأفعال تمثل خطراً على التعايش بين أبناء عكار».
وحده نحيب والدة الشهيد يطغى على التحليلات السياسية داخل قاعة الكنيسة
أهالي المنطقة باتوا يتخوفون من تكرار هذه الجرائم. مصدر أمني يشير إلى ان طريقة الاعتداء على العسكريين لا تتغير. في الأسبوعين الأخيرين جرى الاعتداء على حافلة تقل ركاباً من القبيات إلى حلبا برمي قنبلة يدوية نحوها من ملثمين فروا في الأحراج. كما تعرضت سيارة فيها ثلاثة عسكريين كانت تسلك الطريق نفسه إلى إطلاق نار، من دون أن تسجل أي إصابات في الحالتين. يضيف المصدر ان «الأجهزة الامنية على علم بكل خلل أمني يحصل في عكار، والمعنيون كانوا قد حذروا سابقاً من وجود خلايا نائمة في هذه المناطق، قد تتحرك عند الحاجة. وليس مستغرباً أن تسعى بعض الفئات إلى تشتيت الجيش اللبناني وإلهائه بمعارك ومداهمات في كل من طرابلس وعكار حتى يتسنى للإرهابيين في البقاع وعرسال التقدم». ويرى المصدر نفسه أن «هذه التحركات هي أقصى ما يمكن أن تفعله المجموعات المتطرفة في عكار. لذا فإن الوضع شمالاً سيبقى تحت السيطرة، ولاسيما أن الحدود الشمالية مع سوريا مضبوطة على نحو تام».
إلا أنه على الرغم من التطمينات التي تقدمها كافة الجهات المعنية، يطبق الخوف على نفوس العكاريين، مدنيين وعسكريين. لا يجد احد رفاق الشهيد جمال الهاشم ما يقوله سوى البكاء على رفيق العمر. يحمل الرايات البيضاء ليعلقها فوق سور الكنيسة. يقول الجندي: «كنا ننزل سوا على الخدمة، بس من جمعة مرضت أنا وغيرت الفئة. كل الوقت عم فكر دور مين رح يكون بعد جمال؟»، فيما يمسح والد الشهيد دموعه سائلاً «إبني إنسان ولا عصفور؟ ليش سامحين إنو يصطادوا العسكر متل العصافير؟». ويُسكت من يحاول أن يلقي الملامة على قيادة الجيش قائلاً «لما يكون عنا صندوق تفاح بقلبو تفاحة وحدة مش منيحة، بتنقل العدوى لكل التفاحات الباقيين. قيادة الجيش لا ذنب لها، بل بعض السياسيين الذين يبررون التعرض للجيش اللبناني. بالإضافة إلى أصحاب النفوس الضعيفة الذين يحملون الأفكار المتطرفة والخطيرة وينشرونها في مجتمعاتنا». وحده نحيب والدة الشهيد يطغى على التحليلات السياسية والأمنية المتنقلة بين ألسنة الرجال داخل قاعة الكنيسة. صيحاتها وهي تنادي «بدي جمال» تعيد صورة ابن العشرين ربيعاً إلى أذهانهم، ليتحسروا عليه بالقول «يا ضيعان الشباب».