قبل نحو سنة ونصف سنة، أقرّ مجلس النواب مجموعة مشاريع لزيادة الضرائب واستحداث ضرائب جديدة. يومها كان المشروع مطروحاً في سياق البحث عن إيرادات جديدة تتيح تمويل سلسلة الرتب والرواتب، فجاءت الاقتراحات الأساسية على شكل مشاريع قوانين متنوعّة؛ بينها زيادة الضريبة على أرباح الفوائد وإلغاء الإعفاء منها، الذي تحظى به المصارف، وزيادة الضريبة على توزيع الأرباح، وفرض ضريبة على الأرباح العقارية وعلى انتقال أسهم الشركات... إلا أن الرئيس السابق فؤاد السنيورة تمكن، بمساعدة من القوى السياسية الحاكمة، من إضافة اقتراحين؛ الأول هو مشروع قانون لزيادة ضريبة القيمة المضافة، والثاني يتعلق بفرض رسم على البنزين، سواء من خلال إخضاع استهلاكه لضريبة القيمة المضافة أو من خلال رسم الاستهلاك الداخلي.مدرسة السنيورة
«مدرسة» السنيورة «تتفاخر» بمشاريع فرض الضريبة على الاستهلاك، بحجّة أنها سهلة التحصيل وسريعة المفعول، وتدّعي بأن هذه الضريبة تصيب المستهلكين وفق حركة استهلاكهم. إلا أن هذه المدرسة لا تحتكر هذا النوع من الاقتراحات، بل يشاركها عموم القوى السياسية الحاكمة التي تختبئ وراء جرأة السنيورة في تقديم اقتراحه علناً والدفاع عنه، فيما يتلطى الزعماء وراء شعارات تنتهي بالموافقة على ما يطرحه السنيورة مع بعض التعديلات عليه ومساومته على أمور أخرى.
وقبل أن تتمكن هذه السلطة من «إطفاء» هيئة التنسيق النقابية وفرفطتها، وافقت القوى السياسية المحرجة من فرض ضرائب على الشركات وعلى أصحاب رؤوس الأموال، على «دسّ» اقتراح السنيورة الرامي إلى رفع معدل ضريبة القيمة المضافة من 10% إلى 11% بين مشاريع القوانين الضريبية التي تنتج إيرادات جديدة بقيمة مليارَي ليرة وتغطّي كلفة إقرار سلسلة الرتب والرواتب.
عدم إقفال محضر الجلسة التشريعية ليس له سند دستوري وقانوني

كانت هذه المعادلة هي أقصى ما توصّلت إليه هيئة التنسيق النقابية في مواجهة رأس المال والقوى السياسية، إلا أنها لم تحسب حساب أمرين؛ الأول هو أن تقرّ القوانين من دون أن تنفّذ، إذ إن برّي أوجد المخرج ــ المهرب للقوى المحرجة من خلال إبقاء محضر الجلسة التشريعية، التي أقرّت القوانين، مفتوحاً، أي أن مشاريع القوانين التي صوّت عليها النواب لم تصبح نافذة. والثاني هو أن قوى النفوذ عملت على فرط المعادلة من أساسها من خلال تفتيت هيئة التنسيق النقابية.
ورغم أن هذه «التسوية» القائمة على نوع من التوازن بين الضرائب على رؤوس الأموال وعلى الاستهلاك، ليست عادلة بالنسبة إلى الفئات الوسطى والفقيرة، إلا أنها كانت مقبولة نسبياً خلافاً لما يحصل اليوم بعد تشتّت هيئة التنسيق التي كانت آخر معاقل التمثيل النقابي الحقيقي. أما طروحات اليوم، فقد باتت في اتجاه واحد، أي أن القوى السياسية توقفت عن النقاش في أي ضرائب يمكن أن يتحمّلها أصحاب الدخل الأعلى، وصارت تناقش طروحات «مدرسة السنيورة» حصراً، متجاهلة المحضر المفتوح للقوانين التي صوّت عليها النواب.
وقد ظهر هذا الأمر عندما قرّرت الحكومة البحث عن إيرادات جديدة لتمويل ترحيل النفايات، فجاء اقتراح فرض رسم على البنزين، أي أنها تريد تمويل فسادها وأخطائها وعدم قدرتها على إيجاد مطمر صحّي من جيوب المستهلكين. وعندما علا أصوات متطوعي الدفاع المدني المطالبة بتثبيتهم واستدامة عملهم، ظهر اقتراح فرض رسم على البنزين مجدداً لتمويل هذه الكلفة، وبُرّر الاقتراح بأن انخفاض أسعار النفط العالمية بأكثر من 50% يبيح مدّ اليد على القدرة الشرائية لصغار المستهلكين.
تفسير سياسي لا دستوري
إزاء هذا الوضع، يقول الوزير السابق سليم جريصاتي، إن موضوع «عدم إقفال محضر الجلسة التشريعية ليس له سند دستوري وقانوني. ما حصل في تلك الجلسة هو أنه جرى الربط بين مشاريع القوانين الضريبية وبين إقرار سلسلة الرتب والرواتب على أساس أن إقرار السلسلة سيرتّب موجبات مالية على الخزينة، وهو ما يستدعي الاتفاق على إقرار السلسلة. ولذلك فعندما أقرّت القوانين الضريبية من دون أن تقرّ سلسلة الرتب والرواتب، ظهرت قصّة إبقاء المحضر مفتوحاً ملائمة سياسياً، إذ ليس لهذه الخطوة أي تفسير دستوري أو قانوني. وبما أن تخصيص أي ضريبة لإنفاق معيّن هو غير جائز قانوناً، وبما أن حاجات الخزينة تتطلب العمل بالقوانين التي أقرّت، يجب اليوم إغلاق المحضر وإصدار هذه القوانين».
الساحة محميّة؟
إذاً، في ظل هذه القوانين، لماذا يستسهل اقتراح فرض ضريبة على البنزين؟ «فرض الضريبة على البنزين أو زيادة ضريبة القيمة المضافة، كان أمراً سهلاً في السابق نظراً إلى قدرة المجموعات النافذة في الدفاع عن مصالحها، وهو ما كان يفرض خياراً وحيداً يتمثّل في فرض ضريبة غير مباشرة وسيئة تطاول الفئات الشعبية. كانت الساحة الوحيدة غير المحمية هي ضرائب الاستهلاك التي تطاول الجمهور الأوسع، ولم يكن لديها مجموعات قوى أو نفوذ تدافع عن مصالحها خلافاً لما هي عليه الحال اليوم» يقول مدير المركز الاستشاري عبد الحليم فضل الله.
هل يعني كلام فضل الله أن القوى السياسية لديها الرغبة اليوم في الدفاع عن مصالح الفئات الشعبية، وهي رفضت أو سترفض أي اقتراحات لفرض ضرائب تصيب هذه الفئات؟ يعتقد فضل الله أن القوى السياسية يمكن أن تكون مقتنعة أو لديها مصلحة في عدم خوض مواجهة مع الفئات الشعبية، «لكن في العمق إن الاعتبارات والعوامل التي حرّكت هيئة التنسيق النقابية والمصالح والأهداف التي رسمت في ذلك الوقت وحرّكت فئات سياسية وقوى اجتماعية لفرض ضرائب مباشرة تطاول قوى النفوذ، لا تزال موجودة ولا يمكن تجاوز هذه المحطّة أيام هيئة التنسيق النقابية، بصرف النظر عن وضعها الحالي».
يعزى هذا التحليل إلى الوقائع والمعطيات التي كشفت أيام النقاش في سلسلة الرتب والرواتب. يقول فضل الله «ففي ذلك الوقت، تبيّن للجميع أن هناك بدائل مضمونة للإيرادات وأن هناك قوى اجتماعية تقول لا لفرض ضرائب عليها، أو في الحدّ الأدنى لإجراء مقايضة بين أنواع الضرائب. ولذا، اليوم لم يعد ممكناً فرض خيارات على الفئات الشعبية. نعم، نتمنى أن تكون هناك خيارات إصلاحية في السياسات الضريبية كالمشاريع الضريبية التي لم تصدر بعد، لكن قوى الضغط الاجتماعي بات بإمكانها أن تمنع الأسوأ».




الاستثمار في الأكلاف المنخفضة

يقول رئيس المركز الاستشاري للدراسات عبد الحليم فضل الله إن فرض ضريبة على البنزين اليوم له دلالات اجتماعية واقتصادية خطيرة. فهذه الضريبة، لو أقرّت، سترفع المعدل العام للأسعار، ويأتي فرضها في ظل أوضاع اقتصادية صعبة، إذ يعاني الاقتصاد من ركود اقتصادي، وبالتالي لا تساعد هذه الضريبة على تحسين النموّ ورفع معدلات الاستهلاك. أما ما يجب أن يحصل فهو العكس تماماً، إذ يجب الاستثمار في خفض الأكلاف بعدما انخفض سعر صفيحة البنزين إلى المعدلات التي بلغها اليوم، ويجب العمل على تمكين العاملين بأجر من مواجهة الوضع الراهن من خلال تدخّل الدولة لمساعدة هذه الفئات لا لضربها.
في المقابل، تروّج «مدرسة» الرئيس فؤاد السنيورة، أن فرض ضريبة على استهلاك البنزين يطاول كل مستهلك بحسب قدرته الشرائية، فيما الواقع هو أن قياس الضرائب هو في نوعها وفي ثقلها وليس في تأثيرها المباشر فقط. فالتأثير على أصحاب المداخيل الأعلى يكاد لا يذكر، مقارنة بالأثر الذي تتركه الضريبة نفسها على أصحاب المداخيل الأدنى. أما لجهة سهولتها وسرعة مفعولها، فهذه الضريبة يمكن أن تفرض بطرق ملتبسة، وتحصيلها سريع، ولا يمكن التهرّب منها لأنها تصيب المستهلك الذي لا يمكنه التخفيف من استهلاك البنزين من أجل نقله اليومي، في ظل غياب نقل عام مشترك.