دمشق | وصل رياض الصالح الحسين (1954 ـ 1982) إلى مائدة شعراء جيل السبعينيات متأخراً، فأضاف محمد جمال باروت اسمه إلى القائمة على الفور في كتابه المفصلي «الشعر يكتب اسمه» (1981)، بوصفه الكتاب النقدي الأول الذي رصد خرائط قصيدة النثر السورية، في منعطفها الثاني والحاسم، بعد قصيدة محمد الماغوط الرائدة والاستثنائية. انضم رياض إلى خانة الشعراء الشفويين، وفقاً لتصنيف باروت، في واجهة شعرية اشتملت على أسماء كان لها حضورها المفارق في المشهد الشعري السوري مثل نزيه أبو عفش، وبندر عبد الحميد، ومنذر مصري. هكذا وقفت قصيدة هذا الشاعر الشاب، خصوصاً في مجموعته الأولى «خراب الدورة الدموية» (1979)، عند تخوم هذه التجارب، لجهة الحساسية، والخلائط الجمالية التي تكوّنت منها، إذ لم تتخلّص تماماً في بعض نصوصها، من النبرة الإيقاعية التي تنطوي على مفهوم غائم لتطلعاته الشعرية الخاصة، فيما أكد حضوراً صريحاً، في مجموعته الثانية «أساطير يومية» (1980) وما تلاها، متفلّتاً، إلى حدٍ ما، من شوائب الآخرين. بقيت ظلال الماغوط ـ على نحوٍ خاص ـ تحوم في فضائه الشعري، وإن من البوابة الخلفيّة، من دون أن نهمل النظرة الكونية للعالم التي وسمت نصوصه الأولى، بتأثير ريح الشعر العالمي المترجم، من نيرودا وناظم حكمت، إلى جاك بريفير، ويانيس ريتسوس وآخرين.
وسيجد رياض مفاتيح شعرية تخص تجربته مباشرة: البساطة والوضوح. وهذا ما يشير إليه عنوان مجموعته الثالثة «بسيط كالماء، واضح كطلقة مسدس» (1982)، ولعل انحيازه لهذين المفهومين، منح قصيدته فرادتها ودهشتها وخصوصيتها، وقبل ذلك انحيازها الصريح لمفارقات الحياة اليومية، حين تتكئ على مفردات مألوفة، لم تكن شأناً شعرياً خالصاً. لكنه في المقابل، لم يتخلَّ في بناء قصيدته عن إرث الماغوط في استثماره لـ «كاف التشبيه»، كقوله «أنا أنتظرك الآن/ حزيناً كرسالة لم تصل/ ووحيداً كفزّاعة عصافير»، و»شعرها يتطاير مع الريح كالعصافير الخائفة». كما سيؤثث نصوصه بنبرة احتجاج ساخطة، كان أسس لها بامتياز نزيه أبو عفش. يقول: «لا فائدة من الصراخ/ ما دام الصوت لا يخرج من زنزانة الفم/ لا فائدة من البكاء/ ما دامت المناديل لا تكفي لتجفيف الدموع/ لا فائدة من الطريق/ ما دامت الأقدام مدجّجة بالسلاسل». على أن نبرة السخط ستعلو أكثر، تبعاً لخيباته الشخصية، وكمحصلة مضمرة لعلّة الصمم التي رافقته باكراً، وأضفت نكهة مختلفة على علاقته بالآخرين من جهة، وتعويضها بالكتابة من جهةٍ أخرى، بنوعٍ من التحدّي المعلن. إصراره على كتابة قصائد إيقاعية، مثل «سطور من كراسة الحطّابين الأشرار» في بداياته الشعرية، هو محاولة صريحة لتجاوز محنته، حين يكثر من ترداد مفردات مثل الأغاني والموسيقى، والرقص، كأن شيئاً لم يحدث لحواسه، من دون أن نتجاهل حسّه العالي في إعلاء شأن العدالة المفتقدة، فقد كانت قصيدته تذهب إلى احتجاج كوني عمّا يحدث في العالم من عنف وحروب وطغيان، فيما تنطوي من جهةٍ أخرى على عذاباته الداخلية ومكابداته كعاشق سيء الحظ، كما يقول في إحدى قصائده.
أبداً سنشقّ أمامك
الدروب/ ولن نتركك تضيعين يا سوريا/ كأغنية في صحراء
وهنا تبزغ التجربة الشخصية كملاذ شعري آسر ومدهش ونافر. من يعرفه عن كثب، لن يستغرب معجمه الشعري الذي ينتسب بجلاء، خصوصاً في نصوصه الأخيرة إلى «شعر التجربة»، وفقاً لتصنيف أرشيبالد مكليش. هذا الكتاب الذي ترك أثراً واضحاً في تطلعات هذا الجيل والجيل الذي تلاه في تأصيل مفاهيم جديدة للشعر.
سنقع من دون عناء إذاً، على تفاصيل غرفته في حي الديوانية الدمشقي، وولعه بالزهور، ويومياته في مكتب الدراسات الفلسطينية، وعشقه لزميلته في العمل، وستنعكس مرايا هذه العلاقة في قصائد كثيرة، محمولة على الشغف والوجع والهجران، لينتهي بصدمة عنيفة، أودت به إلى موتٍ مبكر في ذلك المساء الخريفي الفاجع من عام 1982 في «مستشفى المواساة» في دمشق. نجزم أن رحيل رياض الصالح الحسين المباغت، كان نتيجة صدمة عاطفية ونوعاً من الانتحار للفت انتباه من كان يحب بسبب هجرانها له، إثر خيانته العابرة لها، مع فنانة تشكيلية معروفة. لم يشفع له إهداء كتابه الأخير لها «وعل في الغابة» (1983) الذي صدر بعد رحيله، في ترميم ما انكسر. اللافت أن الشاعر وزّع ديوانه هذا بين اقنومي الحبّ والموت في معادلة متكافئة، كنهاية لرحلة قصيرة، كان بدأها باعتماد المفارقة بين خندقين متناقضين، إلى ما يشبه ألعاب الطفولة، في بناء قلاع رملية، ستجرفها سطوة الخراب الذي طال الدورة الدموية أولاً، رغم محاولته أسطرة اليومي والمعيش، خلافاً لمعجم الآخرين، وسيغلق القوس على قصائد «عن الموتى» كأنه كان يرثي نفسه بصمت. ومثلما أضفى الماغوط جحيمه الشخصي على العتبات الأولى لنصوص رياض، رمى الأخير بحممه على تجارب شعراء الثمانينيات، في اكتشاف أهمية الذات وما هو «متروك جانباً».
بات لكل شاعر غرفته، ووروده الذابلة، وكرسيه المهجور في الحديقة، وهزائمه العاطفية التي لم تقع غالباً، وحصته في مواجهة الطغاة، وقبل ذلك كله، استعارة صلصال قصائده، لترميم خزف مكسور ومستعار في الآن ذاته، إلى أن صمت معظم أبناء هذا الجيل تقريباً، في إشارة إلى هشاشة هذه التجارب، وحاجتها إلى صقلٍ بلاغي آخر. ما إن خفت حضور رياض الصالح الحسين في المشهد الشعري السوري قليلاً، لغياب المواكبة النقدية من جهة، ونفاد مجموعاته الشعرية الأربع منذ سنوات، وعدم طباعتها مجدداً من جهةٍ ثانية، حتى اكتشفته المواقع الالكترونية على الانترنت، بدهشة من يدخل غرفةً سحرية ويجد كنزاً مهملاً. وإذا بالمقاصد الشعرية في مكانٍ آخر، أمام سيولة الصور المبتكرة، ومهارة البساطة، والقدرة على إنشاء قصيدة من مفردات لطالما كانت متروكة في الجوار، فانكب على قراءته جيل جديد، وجد فيه أيقونته المفقودة، لتعبر قصيدته الحدود المحلية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، من دون جواز سفر، كأنها مكتوبة للتو «يا سورية الجميلة السعيدة كمدفأة في كانون يا سورية التعيسة/ كعظمة بين أسنان كلب/ يا سورية القاسية/ كمشرط في يد جرّاح/ نحن أبناؤك الطيبون/ الذين أكلنا خبزك وزيتونك وسياطك/ أبداً سنقودك إلى الينابيع/ أبداً سنجفف دمك بأصابعنا الخضراء/ ودموعك بشفاهنا اليابسة/ أبداً سنشقّ أمامك الدروب/ ولن نتركك تضيعين يا سوريا/ كأغنية في صحراء»، و»ثمرة ثمرة، تقطفين أيامي، يا بلادي الجميلة، فاستمع: لا أحد يغنّي سوى الساطور».