الذهنية العربية بعمومها ذهنية بعيدة عن التجريد. وربّما تكون طريقة القراءة هي إحدى أكثر تجليّات هذا اللا تجريد وضوحاً. فقلّما استطاع القارئ العربي التعامل مع المنتج الأدبي بمعزل عن اسم كاتبه، لا بل إنّ معظمنا يبحث عن اسم كاتب النص قبل أن يبدأ القراءة، وبذلك يضع مسبقاً مجموعة من المعايير يتقيّد بها أثناء القراءة، وفي الغالب فإنّ هذه المعايير تجنح نحو شخص الكاتب وليس نحو أسلوب الكتابة أو أدواتها.
وربما يفسّر ذلك محاولات البعض الدائمة لتبخيس أعمال تتمتّع بقيم إبداعية وجمالية متفرّدة بجحة (تحطيم الرموز) عند أوّل خلاف أيديولوجي أو فكري مع كاتبها. وفي هذا الإطار ربّما يكون الراحل، سعيد عقل، إحدى أكثر الشخصيّات الأدبيّة العربية إشكالية. ولا شكّ في أنّ تصريحات الراحل ومواقفه الغريبة، والمتناقضة أحياناً، المعلنة، على مدى عمره المديد، أسهمت بتأجيج هذه الحالة، حتّى بات من الصّعوبة بمكان أن تجد من يقرأ شعره بمعزل عن آرائه السياسية ومواقفه القوميّة التي بلغت حدّ العنصريّة. وبذلك أيضاً يكون مفهوماً سيل الاتهامات التي انهالت عليه فور إعلان خبر وفاته، وانشغال كثيرين بنبش تاريخه في هذا الخصوص. ولكن، وبوقفة بسيطة بعيداً عن كلّ هذا الهرج. لا أحد يمكنه إنكار أنّه برحيل سعيد عقل، يرحل آخر شاعر عربيّ "كلاسيكيّ" إذا صحّت العبارة. وآخر صلة وصل لنا بماضي الشعر العربيّ، فسعيد عقل لم يكن، بشعره، إلا امتداداً طبيعيّاً للشعر العربي ابتداءً من الجاهليّة وصولاً إلى وقتنا الرّاهن،. هو الذي ما ملّ طيلة عمره المديد، من الدعوة إلى لبننة اللغة، وجعل اللغة المحكيّة بديلاً للفصحى، في واحدة من نزواته القومية التي نزع فيها نحو الفينيقيّة، بعدما ابتعد عن القوميّة السوريّة، والقوميّة العربيّة، إلا أنّه رغم ذلك كلّه بقي واحداً من أهمّ من امتلك العربيّة، وأخضعها لمختبره الشعري، مجترحاً منها تراكيب، وصياغات يعجز كثيرون عن الوصول إليها.
المتابع لطروحات سعيد عقل الغرائبيّة التي كانت تثير الضحك في الكثير من الأحيان، لا بدّ من أن يتذكّر اعتباره لبنان قلب العالم، ومركز الكون، واعتبار نفسه الشخصيّة الأبرز والأهم في هذا الشرق، فهل هو استثناء بذلك عن الشعراء العرب الذين إذا ما استعدنا مدائحهم لأنفسهم سنجد فيها الكثير مما قاله سعيد عقل عن نفسه؟ لم يكن سعيد عقل في ذلك مختلفاً عن غيره من شعراء العربية، لكن مجاهرته بذلك قولاً لا شعراً ربّما يكون هو ما جعل الأمر استفزازياً لبعضهم. بمقاربة بسيطة بين سعيد عقل ووطنه لبنان، سنجد أنّ شبهاً كبيراً يجمعهما. فلبنان هذا البلد الصّغير بمساحته، وعدد سكّانه لم يكفّ يوماً عن اعتبار نفسه جزءاً مؤثراً بكلّ فعل على وجه الكوكب مهما كان بعيداً عنه. إنّه يلفّق لنفسه أدواراً تفوق حجمه بمرّات، ربّما هو تعويض عن صغر المساحة، وربّما هو شعور طبيعي يمنحه البلد الصغير لأبنائه نتيجة قدرتهم على قطع كامل مساحته خلال ساعات قليلة، وقدرة كلّ منهم على أن يكون نجماً بسبب أيّ فعل يقوم به مهما كان صغيراً. هو وهم العظمة وتلفيق الكثرة انتقاماً من قلّةٍ فرضها الواقع. وبهذا تكون كلّ فانتزمات شاعر كسعيد عقل مفهومة، ولن تلغي أهميّة وجمالية جلّ ما كتبه بالفصحى أو العاميّة. وربما سيصعب علينا كثيراً أن نعثر في الأجيال القادمة على من يمكنه أن يصوغ جملة شعريّة مسكوبة بمهارة هذا النحات الصائغ، القائل في مواجهة الاستسهال "الصّعب صِنو الجمال، لأنّه دهشة وإعمالُ كَدٍّ عقلي، وإبداعُ عبقريّةٍ وكدحٍ فكريّ"، والداعي يوماً ما إلى أن تتجاهل الصحافة الأعمال الرديئة حتّى بالهجاء كيلا تسوّق لها وإن من باب المذمّة. إّذاً هو الرحيل الأخير لمن أنشد يوماً:
مرّة سْمعت عصفور شو مَهْمُوكْ
مْسَلْطِنْ وْعَم يُخطبْ ويتجلّى
يْقِلّو لإِبنو طير وتعلَّى
فْتافيت خبز قلاَلْ بيقدوكْ
بَس السَّمَا رَحْ تِلْزَمَكْ كِلاَّ