لم يختلف وداع الصبوحة أمس عن أيامها العادية التي عاشتها طوال 87 عاماً. «الناس الطيبة» حضروا بعفوية لإلقاء التحية الأخيرة على أسطورتهم. وصل جثمان الصبوحة إلى «كاتدرائية مار جرجس» (وسط بيروت) عند حوالى الساعة الثانية عشرة والربع ظهراً. كان الجميع قد أعدّ العدّة لتلك اللحظة، لكن وحدها الدموع تسبق كل المخطّطات، فتنهال برقيّ وهدوء من دون استئذان. وسط الزغاريد والورود المتناثرة، رقص الحضور الجميل بفرح وحزن على غياب الشحرورة. امتزج الشعور بين البكاء والابتسامة، لكن الدموع كانت أصدق تعبير، فهي تصلح للفرح والحزن.
لا نعرف من أين أتى كل هذا الحشد الشعبي لوداع الصبوحة، لكنه افترش طرقات وسط بيروت الفخمة. ولمجرّد الاقتراب من أولئك الناس، نسمعهم يدندنون بحرقة أغنيات صباح مع جملة موحّدة «يا حبيبتي». في حزن أولئك صِدق لا يوصف. يقول أحدهم «مش مصدّق إنها ماتت، صباح ما بتموت. الله معك يا شحرورة». آخرون يقولون «كبر قلبي بالعجقة ببيروت لوداع صباح. اللبناني أوفى من دولتو». في ذاكرة المواطنين العاديين صورة موحّدة عن الراحلة: هي الجميلة والدائمة الابتسامة، يحضنون صورها غير مصدّقين أنها فارقتهم. لم يكن مهمّاً حضور المغنيات إلى جنازة الوداع. بل كان الناس وحدهم حديث الساعة ومحطّ أنظار الكاميرات فيما انصرف بعضهم إلى أخذ صور «سيلفي» مع نعش الشحرورة.
غنّوا ورقصوا من دون قيود. هم وحدهم أحبّوا صباح وكانوا أوفياء لها، لكن الاكليل الذي أرسلته فيروز تحوّل الى حديث الاعلاميين، وكتبت عليه «شمسك ما تغيب». ما يؤخذ على المغنيات أنهن وصلن متأخرات إلى الكاتدرائية، وهنّ ميريام فارس وهيفا وهبي وماجدة الرومي، بينما حضرت نجوى كرم لوقت قصير ثم انصرفت بهدوء، كما حضر راغب علامة، ومعين شريف ورفيق علي أحمد وغيرهم. برغم أن مجموعة كبيرة من الفنانين والممثلين لبّوا النداء لوداع صباح، كان لافتاً أن نجوم الغناء في حقبة التسعينيات، طغوا على الحضور. شاهدنا أحمد دوغان، وصبحي توفيق ومايز البياع وزين العمر. وحضرت الجنازة شريحة واسعة من الممثلين على رأسهم صلاح تيزاني (أبو سليم) الذي دمعت عيناه عندما وصل إلى الكنيسة. وقال «أبو سليم» لـ «الأخبار»: «الحكي بهالمناسبة قليل، كلمة واحدة تكفي الله يرحمها». أما مادونا، فقالت: «أحببنا الصبوحة بطريقة مختلفة عن كل الناس. وهذه الفرصة لأناديها عساها تسمع. ستبقين أزرة تنمو في قلوبنا، وستبقى شمعتك مضاءة في منزلي ما حييت. أحبك كثيراً ومن حسن حظي أنني أنتمي إلى جيلك». بدوره، رأى الإعلامي عبد الغني طليس أنّ «وداع الصبوحة خال من الناس الفضوليين الذين يحضرون المآتم من أجل أن يراقبوا من حضر. إن رحيل صباح مليء بالناس الطيّبين».
حضور مصري كثيف نجماته
الهام شاهين ويسرا وميرفت أمين، ولبلبة أشد المتأثرين


في السياق نفسه، أشار الملحن والمايسترو إحسان المنذر إلى أن صباح «حبيبة العرب والوجه المبتسم دائماً، أحبّت الحياة والحياة أحبتها. هي أسطورة لن تتكرّر». من جهته، حضر الجنازة الفنان وليد توفيق برفقة زوجته جورجينا رزق ملكة جمال الكون لعام1971. وقال توفيق «رحلت جسدياً لكنها ستبقى في أرواحنا وحياتنا، كما أن فنّها مدرسة. أتمنّى أن تكون رحلتك منذ الآن شبيهة بحياتك الهانئة». أما عن الجنازة، فيقول «هذا عرس مثلما كانت أسطورة بكل أغانيها وعملها ومحبّتها يليق بها هذا العرس». بدورها، رأت جورجينا رزق أن «أقلّ خطوة يقوم بها فنانو لبنان هي حضور جنازة الشحرورة. نمرّ بأيام عصيبة، لكن رحيل صباح زاد علينا صعوبتها». سرعان ما تطلب الممثلة ورد الخال الحديث بعد أن تجد مكاناً ضمن الازدحام. تقول: «أشعر بأنّني في أجمل جنازة في حياتي. لا أعرف إن كان من اللائق أن أقول هذا، لكن سأختار الصراحة. أشعر بغصة لأني لن أراها ثانية وسنفتقدها، لكنها تبقى قطعة ثابتة من تاريخ لبنان، وأظنّ أن رحيلها كان هادئاً ومريحاً إكراماً لما خلّفته من سلام أينما حلّت. ونحن اليوم أمام هذا التشييع المختلف في سابقة لم تحصل قبلاً». في السياق نفسه، يكشف الفنان الياس الرحباني أنه كتب بعض الجمل المعبّرة في طريقه إلى حضور الجنازة، قائلاً «يا صباح المسافرة، يا صاحبة الوجه الشمسي، ستبقى شمسك مشرقة، وصوتك يبقى دائماً مصدر الفرح ومنارة الأحياء». يتحدّث الاعلامي نيشان ديرهاروتيونيان مطوّلاً عن علاقته بصباح، لافتاً إلى أنه أجرى معها نحو 11 مقابلة إعلامية وغالبيتها بثّت على قناة «الجديد». ويضيف «لقد أخبرتني الصبوحة في إحدى المقابلات أنها عاشت كثيراً على الأرض، وتحبّ أن تعرف ماذا يدور في العالم الآخر». ويلفت الممثل اللبناني يوسف حداد: «عندما كنت أهمّ بالقدوم إلى التشييع، سألني ابني إن كان لبنان على وشك الانهيار بسبب موت صباح، فأجبته بأن البلد الذي أنجب صباح لا يموت. هي بمثابة قديسة لما حملته من قضايا نبيلة وهذا التواضع لا يوجد إلا هند القديسين». وفي الوقت الذي اقتصر فيه الحضور السوري على المغنية رويدا عطية والمخرج سيف الدين السبيعي، قّرر الأخير أن يغادر مبكراً بعدما قال «كانت صباح تستحق جنازة أكثر تنظيماً ومهابة، لكن حبّها للحياة والناس جعل تشييعها عرساً شعبياً طغت فيه عفوية المشهد على كل شيء. أتمنى أن تلتقي أمي التي أحبّتها إلى درجة سمت فيها أختي على اسمها. لترقد روحها بسلام في ملكوت السماء، فقد أتعبتها الحياة كثيراً». برغم تصريحات الفنانين اللبنانيين الذين أجمعوا على محبّة الراحلة، إلا أنه كان لافتاً حضور الفنانين المصريين الذين عبّروا بأصدق الجمل عن محبّتهم للراحلة، وهم: يسرا، وإلهام شاهين، ولبلبة، وميرفت أمين، وسمير صبري، وبوسي شلبي، وعلا رامي وأشرف زكي. تلك المجموعة الآتية من القاهرة رافقت رحلة الشحرورة الأخيرة من لحظة وداعها الأولى إلى آخرها. في شهادتها، تقول إلهام شاهين في حديثها مع «الأخبار» «كانت إنسانة نقيّة ولن تتكرّر. حياتها كانت تعتمد على البساطة والسعادة ودعوة الناس إلى محبة الحياة، وهذا ما تعلمناها منها من دون أن نحزن وأن نعيش ببساطة ونتفاءل. الراحلة كانت عرّابة التفاؤل وتحبّ الحياة والفنّ والموسيقى ولم تكن لها عداوات مع أحد، وعلّمتنا في حياتها درساً حقيقياً في الحب». أما لبلبة، فقد بدا عليها التأثر الواضح واختصرت مشاعرها قائلةً «كانت أمي الثانية وحبيبة روحي. علاقتي معها بدأت مذ كان عمري ثماني سنوات، وقد عملنا في فيلم «يا ظالمني» (1954) وتبادلنا منذ ذلك الوقت مشاعر إنسانية خالصة». أما النجم سمير صبري، فيصف المشهد «كأنّي أحضر كرنفالاً من الفرح لإسدال الستارة الأخيرة على سيدة أحبّت الناس من دون تمييز. الصبوحة السيدة الجميلة الأنيقة ستبقى بيننا شمس الشموس». لم يكن وداع الشحرورة في وسط بيروت سوى محطتها الأولى. بعدها، انتقل جثمانها إلى قرية بدادون (محافظة جبل لبنان) حيث استُقبلت استقبال العرسان، قبل أن توارى ثرى مسقط رأسها.