لم يكن لبرج فازليان وطن. كانت له أوطان. هذا الأرمني التائه الذي كان شريكاً أساسيّاً في صنع حداثة بيروت الستينيات، وما اصطلح على تسميته «العصر الذهبي» للمسرح اللبناني والعربي، جاء متأخّراً إلى المدينة مطلع الخمسينيات، بعدما نصحه محسن آرطغول أستاذه في «أكاديمية المسرح الخاصة»، وهو تلميذ ستانيسلافسكي ومؤسس المسرح التركي الحديث، بأن يغادر إسطنبول التي لم يعد له خبز فيها! هكذا جاء إلى بيروت بـ«بخيل» موليير الذي كان مارون النقاش قبل أقل من قرن قد بدأ بها تاريخ المسرح المشرقي. عاش برج متنقلاً بين المنافي، غريباً عن الأوطان، لكن ذلك لا يعني أنّه لم ينخرط في الحركة الثقافيّة حتى التماهي معها… الخيار الذي يواصله اليوم على طريقته ابنه المايسترو هاروت فازليان. قلّة تعرف أنّ الرجل ذا اللحية البيضاء، واللهجة المكسّرة لم يلعب فقط دوراً تأسيسياً في المسرح الطليعي مع أعمال مثل «الزنزلخت» و«لعبة الختيار» و«أبو علي الأسمراني»، بل هو صانع الفرجة الشعبيّة في أشهر المسرحيّات الرحبانيّة التي صاغت الوجدان اللبناني من «بياع الخواتم» في «مهرجانات الأرز» (1964) ــ وهي تجربته الأولى مع الرحابنة، دفعه إليها أنسي الحاج بعد تجربة شكسبيريّة مشتركة في ضيافة ميشال بصبوص في راشانا («كوميديا الأغلاط» ــ 1963) ــ مروراً بـ«الشخص» (1968)، و«المحطة» (1971)، و«لولو» (1974)، ووصولاً إلى «ميس الريم» (1975) التي اختار بعدها طريق المنفى الكندي لعشرين عاماً، عشيّة الحرب الأهليّة اللبنانيّة. وكانت عودته المسرحيّة عام 1996 مع «جبران» غبريال بستاني، ليعود إلى مساءلة الهويّة اللبنانيّة عبر أحد رموزها الأساسيّة، ولعلّها وصيته المسرحيّة وآخر مساهماته الجديّة في المسرح الطليعي. جبران مثله عاش على الحافة، وعاش بعيداً في قربه. جبران ابن المنفى اللغوي والنفسي والجغرافي الذي دفعه إلى الإبداع والتألّق والتجاوز والانتماء. برج فازليان تكوّن أيضاً في إسطنبول ـــ عاصمة ذابح شعبه ـــ على يد المسرحي الألماني كارل إيبرت الذي حمل بين ضلوعه جرح البربريّة النازيّة. وكان من سخرية القدر أن يلعب دور الضابط التركي في فيلم «سفربرلك» (1967) للرحابنة، والضابط الإسرائيلي في فيلم غاري غاربتيان «كلنا فدائيّون» (1969).
برج فازليان اليوم أيقونة من أيقونات الثقافة اللبنانيّة القائمة على الانفتاح والتعدد والابتكار والتجاوز والتمرّد والالتزام بالقضايا الكبرى والعدالة. في بيروت، عمل في إدارته أكبر الممثلين وأشهر النجوم من فيروز وصباح إلى وديع ونصري، ومن نبيه أبو الحسن وريمون جبارة وأنطوان ملتقى وفيليب عقيقي وروجيه عسّاف ونضال الأشقر…. وصولاً إلى رفعت طربيه ورلى حمادة… والقائمة تطول. مات من دون أن يحقق أحلامه الثلاثة: إقامة متحف لفنون الفرجة في لبنان يضم الملابس والملصقات والوثائق البصريّة على أنواعها، إعادة تقديم مسرحيّة لبرتولد بريخت (لعلّها «روح سيتشوان الطيّبة» أو «أوبرا القروش الثلاثة»؟)، وأخيراً أن يعود إلى إسطنبول ليزور البيت الذي ترعرع فيه قبل أن تعصف بعائلته، أسوة بكل هذه المنطقة الملعونة من العالم، رياح التاريخ. لعلّ موطن برج فازليان في المحصلة النهائيّة هو التاريخ.