لن يكون سجناً حتى الموت. تمسّك سامي (اسم مستعار) بهذه القناعة منذ دخوله سجن رومية عام2006 بتهمة «مخدرات». يومها، لم تكن تفصل المتهم سوى أشهر قليلة عن نيل الإجازة في الكيمياء من الجامعة اللبنانية. «كان ينقصني النجاح في مادتين لأتخرّج»، يشرح الشاب الذي غادر السجن عام 2010 بعفو خاص من رئيس الجمهورية. يستعيد سامي سنوات عزلته الجبرية خلف القضبان بكثير من الارتياح. هو اليوم إنسان آخر، يقول.
حتى في رومية لم يكن يائساً وإن لم تخلُ أيامه هناك من إحباط مصدره «العصي بالدواليب». كيف؟ يلفت إلى أنّ «القائمين على السجن لم يفتحوا لي أي نافذة لأخذ شهادتي. لم أسمع في ذلك الوقت سوى عبارة واحدة: كنت فكّرت بجامعتك قبل ما تغلّط».
لكن أمام الفراغ القاتل، لم يجد الشاب مفراً من «فلفشة» كتبه. استعان حينها بجمعية «عدل ورحمه» التي سهّلت حصوله على موافقة النيابة العامة التمييزية والمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي لإجراء امتحاناته وحيازته الإجازة.
«لم يكن الخروج إلى المجتمع سهلاً هو الآخر»، يقول، وخصوصاً أنّ النظرة الدونية التي شعر بها، حرّكت في داخله أسئلة قاسية دفعته للبحث عن إجابات تغذي الجوانب الإيجابية في شخصيته.
يُقر سامي بأنّه إنسان محظوظ. فهو لم يتأخر في التعرّف إلى إحدى الجمعيات المهتمة بإدماج المهمشين، ونجح في وقت قياسي بأن ينتمي إلى كادرها الوظيفي.
يُعد الشاب اليوم مشروعاً عن إدارة تدوير النفايات الصلبة. ليس هذا فقط، بل أنجز «الماستر» في الجامعة اليسوعية، ويُعدّ لنيل الدكتوراه.
إذا كان سامي قد وجد من يأخذ بيده ليوصله إلى البر، فالأمر لا يتوافر لكثيرين، لكون الأنظمة اللبنانية لم تحفظ حتى اليوم للسجين حقه في التعلّم. وكل ما تحقق لا يعدو تجارب مدنية متناثرة، بحسب رئيس جمعية «عدل ورحمة» الأب هادي العيا.
لم يستطع المجتمع المدني حتى اليوم أن يقنع السلطات في السجن بعدم «تكبيل» أيدي الشباب لدى نقلهم إلى مركز تقديم الامتحانات الرسمية. هنا يشعر السجين بأنّ كرامته مهانة ويفقد كل قدرة على التركيز، ما دام العسكري سيقف فوق رأسه طوال فترة المسابقة، يقول العيا. يرى الأخير أنّ مشروع نقل السجون من وزارة الداخلية إلى وزارة العدل قد يحلّ القضية. ويشير إلى أنّ الأمر ليس تفصيلاً في حياة السجناء لكونه جعل الكثيرين منهم يترددون في الخضوع للاستحقاق خوفاً من أن «تنكسر» صورتهم الإنسانية.
من هنا، لا يزال التعليم داخل السجن في مرحلة كرّ وفرّ، رغم تأمين أماكن للدراسة تدعى «صف مدرسة» تهيئ نفسياً السجناء الراغبين في متابعة دروسهم، بعد إبرام اتفاقات ضمنية مع إدارة السجن.
وبينما تحتاج مثل هذه التجربة إلى مأسسة رسمية، تكشف مصادر في وزارة التربية لـ«الأخبار» عن إعداد مرسوم يسمح بانتداب معلمين من التعليم الرسمي للتدريس في السجون وقد بات في مراحله النهائية ولا ينقصه إلاّ موافقة مجلس الخدمة المدنية. هذا المرسوم سيطبق في إصلاحيات الأحداث بصورة خاصة.
وفي انتظار المأسسة، اختبرت الجامعة اليسوعية تعليم شابين جامعيْين داخل السجن بمدّهما بالمقررات المطلوبة وانتداب أساتذة لمساعدتهما هناك. الأول تخرّج وأسس مشروعه الخاص، فيما لا يزال الثاني يتابع دراساته العليا في الجامعة حيث يعمل. أما اليوم، فهناك شابان آخران يتوقعان المساعدة نفسها، وقد بات طلبهما في مراحله التنفيذية، على حد قول المديرة المساعدة في دائرة الخدمة الاجتماعية روزي الرامي.
الدائرة كانت صلة الوصل بين إدارة السجن وإدارة الجامعة. فقد تبنت عام 2001 سجيناً كان يدرس لديها قبل أن يُحكم عليه بالسجن 5 سنوات. الشاب رغب في مواصلة الدراسة، وقد وجدت فيه الدائرة طالباً لا سجيناً، فرفعت طلبه إلى رئاسة الجامعة وأخذت الموافقة على مرافقته أكاديمياً واجتماعياً.
بعدها، قصدت الرامي الكلية التي كان يدرس فيها لجس نبض استعدادها للتعاون مع الشاب. لم يكن الأمر سهلاً، تقول، «لكونها التجربة الأولى ولم نكن نعرف من أين نبدأ»، لكن الكلية تبنّت القضية ووضعت آلية تواصل مع السجين تتضمن تقسيم المواد، وخصوصاً أنّ البعض منها لم يكن قابلاً لتعليمه عن بعد، فاضطر إلى متابعتها بعد خروجه إلى الحرية. وقد نال الشهادة وهو اليوم ناجح جداً في حياته العملية، بحسب الرامي.
تجربة الشاب الثاني كانت مختلفة. صحيح أنّ الجامعة راكمت خبرة معينة في هذا المجال، لكن السجين لم يكن طالباً فيها وكانت فترة حكمه طويلة (18 عاماً) ولم يكن اختيار الاختصاص سهلاً. أن يكون محروماً حريته، فليس معنى ذلك أن يسلب حقه في اختيار الدروس التي يريد أن يتابعها. من هنا كان قرار الجامعة أن تعطيه حقوق الطلاب وتأخذ منه واجباته. هكذا، عرضت الجامعة عليه الاختصاصات التي تتوافق وميوله، فبدأ الإجازة في السجن عام 2005 وأنجزها في 2010 واستطاعت الجامعة أن تأخذ إذناً من النيابة العامة ليشارك في حفل التخرج. وخلال فترة حكمه، تسجل في «الماستر» وتعهدت الجامعة أن تنطلق حياته فيها وهكذا صار.
السجينان ـ الطالبان قررا أن لا يبقيا تحت وطأة ثقافة السجن، وإن كان ذلك لم يمنع مرورهما بفترات إحباط لها علاقة بأفق ما يفعلانه «أنا سجين رح ضل مطبوع بهذه الصفة لو شو ما عملت بحياتي». الرامي كانت تلمس الأمر بنفسها عندما تذهب إلى السجن وترى أنّ الفروض أو الأبحاث المطلوبة لم تنجز في الوقت المحدد. اللافت ما تقوله لجهة تأثير أجواء المحيطين بهم في السجن، كأن يواجه الشاب الأول أسئلة من نوع «شو عم تتفلسف علينا وتعمل حالك عم تدرس؟». ما حصل مع الشاب الثاني هو العكس، إذ وفّر له رفاق السجن كل أسباب الراحة والهدوء، وكثيراً ما كانوا يصرخون «روقوها يا شباب».
ومع أنّ إدارة السجن كانت تحترم خصوصيات الشباب وتسمح لمنتدبي الجامعة بالجلوس معهم وفق الوقت الذي يحتاجونه، إلا أنّ الأمر لم يكن يخلو من مفاجآت لها علاقة بغياب آمر السجن وتأخير الزيارات. وتروي الرامي كيف «نشعر بأننا مسجونون، إذ يقفل الباب الأول والثاني والثالث ونصبح معزولين مطالَبين بتخطي الزحمة والرطوبة».
تحرص الرامي على التأكيد أن «مهمتنا ليس الشك بالحكم بل الالتفاتة إلى السجين الطالب الذي نؤمن بأنّ الدروس التي يتابعها هي وسيلة للانخراط في المجتمع كي لا تكون العقوبة هدفاً بل مرحلة يتعلم من خلالها أن لا يدخل مذنباً ويخرج مجرماً، وإذا كان محروماً حقوقه المدنية فهو حتماً غير محروم حقوقه كإنسان».