حدث ذلك في الضاحية الجنوبيّة لبيروت. في مكانٍ ما هناك يكتظ بفقر يتنامى. ليس حدثاً أن يدخل عاطل من العمل إلى السجن. وأول مرة دخل حسين إلى السجن كان عمره عشرين عاماً. سرق دراجة ناريّة. كسر المقود بقوة ووضع شريطاً على آخر فدارت. كان شاباً طبيعيّاً. لا يعني ذلك أن الذين في رومية غير طبيعيين. القصد أن حسين لم يكن مجرماً. دخل إلى السجن قبل أن يكون مجرماً. قبل السجن كان يعيش حياة عادية.
صاحب فتاة في الحيّ وكان من جماعة الناصية. ترك المدرسة باكراً ولم يجد عملاً، فاستثمر شغفه بالدراجات، وسرق واحدة. أحب كرة السلة لأنها «درجت في زمنه». تذكرون، أيام الحكمة، وإيلي مشنتف، أيام الرياضي، وكأس آسيا. درجت كرة السلة وحسين كان موزعاً جيداً. ولكنه كان بلا فريق. موزع للاعبين مثله، بلا آفاق، سلتهم بلا شباك، وملعبهم قرب «معمل البلاط». في المرة الثانية «لقطوه». ودخل إلى السجن لأنه لا يملك ثمن الكفالة. هكذا يذكر. في رومية بدأ حياة جديدة ورأى أشخاصاً جدداً. إلى حدٍ بعيد يشبهون الذين عرفهم على النواصي. يسرقون، يتناولون الأقراص المهدئة، يتعاطون (المخدرات). ولكن لا نواصي في رومية. كل شيء يحدث أمام الجميع. قريبون لدرجة أن الهواء مزدحم بين رواد الزنازين، كأنه واحد منهم. لا حياة خلف تلك القضبان. لم يقرأ حسين كارل ماركس ولا مارتن هيدغر في السجن. توقف عن كرة السلة، وعن الحبّ، ولم يعلموه حرفة، أو «صنعة» بالعاميّة. لم يؤمنوا له عملاً بعد خروجه. تعرف إلى «مجرمين» حقيقيين، ووحدهم احتووه. فأحبّهم حبّا مجانيّاً.
يتذكر مبنى المحكومين «أ» ومبنى الموقوقين «د». عاش «أياماً جميلة» هناك. لا أحد يمكنه أن يفهم كيف تكون الأيام جميلة في السجن إلا إذا قارنها بأيام السجين بعدها. صار له أصدقاء جدد على مقاس السجن. وحياة بنظر الآخرين على قياس السجن. ذلك لأن المجتمع أصلاً يعرف «عالم رومية»، والقصص التي تواترت عنه تشبه قصة «مغامرة شاوشنك». في هذا الفيلم، كاد مورغان فريمان أن ينتحر بعد خروجه، بعدما سبقه زميل الى ذلك. لم يعرف العيش خارج السجن. كانت تلك حقبة «اصلاح السجون» في الولايات المتحدة. ولكن ماذا عن الإصلاح هنا؟ تنقل حسين بين مساحات محددة: الزنزانة التي يتشاركها مع أربعة أشخاص، باحة النزهة المحاطة بجدران السجن العملاقة، والدرج الحلزوني الأسوَد. هذا الدرج المصمم بطريقة لافتة يبدو مقطوعاً من سجنٍ آخر. هو سجن راق، أو بالأحرى درج راق. حسين «يحنّ» إلى السجن المركزي.
أيها الخارج من سجن رومية خفف الوطء. هذا عالم جديد وهواء جديد. وأحياناً يلفظك فوراً. أصدقاء حسين الجدد، مروا بتجربته. لم يولدوا مجرمين، ولكنهم صاروا كالأسماك والسجن كالبحر. لم يجدوا عملاً، فنشلوا وسرقوا. ليسوا هواة نشلٍ ولا سرقة، وهذا ليس دفاعاً عنهم. هذا تقليدي وأي محكوم يقوله. التوبة تغري معذبي رومية، ولكن هل يقبلهم المجتمع؟ ليس دائماً. وكما هي الحال في أغنية أوتيل كاليفورنيا: متى دخلت لا يمكنك الخروج أبداً. يمكن أن تنتهي فترة السجن التي أصدرها القضاء. ستغادر ولكنك «قد تعود». يقول سجين آخر، يسخر من اقرار مشروع خفض السنة السجنيّة وقوانين «حسن السلوك». يتأفأف... «مش زابطة هون». و«الهون»، خارج السجن. غادر علاء السجن من البوابة الرئيسة وكان مشهداً جميلاً يذكره تماماً، بالتفاصيل المملة. غادر في الثامنة صباحاً، حلق لحيته، وارتدى ثياباً جيدة، واستقبلته والدته بلطف. وعاد إلى الشارع. صار شخصاً يهابه الذين لم يعرفوا رومية بعد. أما الذين يعرفونها، فشاركوه الناصية من جديد. لا عمل لأصحاب الدمغات على السجل العدلي. البعض ينجو إذا تولى أعمالاً لا تسمن ولا تغني من سجن. أحدهم، عمل في مد أشرطة الستالايت، وتوصيل التمديدات الكهربائية. وعلى حد قوله، يعمل في أي شيء يمكنه القيام به. «حيلّا شي إلا السجن». تاب نهائياً. هذا معروفٌ في ذكائه الحاد (ينادونه بالحربوق) بين شباب الحي الذي يسكنه، وفي أن «قلبه ميت». وقلبه ميت، في أوساط الشبان، تعني أنه شجاع، وقادر على الدفاع عن نفسه بشراسة. إلا أن تلك الصفات لم تعد مرضيةً بالنسبة إليه: يريد «عائلة». ولكن، أي عائلة ستقبل سجيناً بقلب ميت وعينين زائغتين. تحتاج «توبته» إلى اثباتات شبه دائمة. يشعر الرجل بأنه محط اتهام أبدي. وهذا ليس مقلقاً وحسب، بل «محبط». والسبب ليس صيته نفسه بل صيت السجن. وفي هذه البلاد، التعميم سهل.
الخارج من رومية، قد يكون مواطناً نظيفاً من وحل السجن فعلاً. علاء تخلص من لوثة «الحبوب». ولكن ستختلف الأمور في الخارج. اختار الناس له صورة جديدة، يسقطونها على كل «خريج حبوس». ذات عراك سمع كلاماً قاسياً ووقف الجميع ضدّه في «المشكل» لأنه «تعول رومية.» كما ظن لحظة خروجه. ما زالت الصفة تلازم علاء منذ ثلاث سنوات، ويربط الناس بين طباعه الحادة وبين دخوله إلى السجن. والقول إن طباعه حادة يبدو لطيفاً نوعاً ما. علاء مشبع بالعنف، ولكن ماذا فعل السجن له؟ زاده عنفاً. رأى «تعول فتح الإسلام» ورأى «القبضايات». فنهل منهم عنفاً، وتكرس العنف في رأيه بطولةً. في الحي الشعبي، المكتظ بالفقراء، حيث يقطن، يعرفون أن الجنحة التي ارتكبها لم تكن حدثاً متوقعاً، وأنه ليس «خريج حبوس». أتاح له ذلك إعادة الانخراط في الحياة الاجتماعية، ولكن علقت في ذاكرته الأيام السوداء.
يتذكر اليوم «الويلات». هناك، في مبنى الموقوفين، حيث يختلط الكبار بالصغار، يضيع أثر الأوكسيجين في روائح الآخرين، يمرّ الوقت بطيئاً. وما زال الوقت بطيئاً، لم يدخل علاء إلى الجامعة، وحسين لن يوزع الكرات قرب «معمل البلاط». حسين عاد إلى السجن، وعلاء يقود سيارة أجرة، يكره الحديث عن السجن والسجون مع ركابها. أحياناً، يحدق في وجوه الركاب. يحاول التكهن إن كانوا مثله، زاروا ذلك المكان يوماً ما. وفعلاً، اكتشف واحداً منهم ذات يوم. وضحكا طويلاً. 5000 نزيل سنوي تقريباً يدخلون ويخرجون. ولكن الذين يمضون وقتاً أطول من عام، قد «يعلقون». يحذّر. لا يخشى السجن بوصفه عقاباً على الجريمة، بل يخشى أن يحول المخطئ إلى مجرم، والمجرم العادي إلى مدمن على الجريمة.