بعد كل تلك السنين، رآها. كانت تقف في طابور المنتظرين للدخول إلى سجن رومية. بلمح البصر، «استرجعها»، بملامحها القاسية التي رآها قبل أربع سنوات، عندما «كمشوه». ظنّها عائدة إليه، فهرع إلى غرفة المواجهة، مستبقاً دخولها. وقف هناك، متسائلاً في سرّه: كيف سيكون اللقاء بعد كل هذا الغياب؟
نصف ساعة من الانتظار والخوف، عبرت بعدها الأم إلى غرفة المواجهة.. المواجِهة لغرفة ابنها. رآها ولم تره. رآها تبتسم لشقيقها ورأى نفسه وحيداً مرة أخرى. هرب إلى «فوق»، يتطلع إليها من الثقب الذي حفره يوماً في جدار عزلته. بقي هناك، بلا أصدقاء ولا عمل.. ولا أم.
يومها، لم يجد إلا تلك الشابة التي وقفت منتظرة أمام بابه. هي واحدة، كغيرها من العاملين في الجمعيات، الذين دخلوا ذات يومٍ إلى السجن ليرتقوا الغياب «الذي خلفة الأهل والعمل على تعزيز حقوق الإنسان والديموقراطية وتنمية القدرات وتمكين السجناء من جهة ثالثة»، تقول شارلوت طانيوس، الناشطة في «الحركة الاجتماعية». والأخيرة واحدة من جمعيات كثيرة، دخلت السجن في سبيل إعادة وصل من هم بداخله مع الخارج. دخلوا إلى العالم المفصول عن الحياة لتحويله من مكانٍ «لإيواء» الجريمة إلى مكان تتعزّز فيه حقوق الإنسان والديموقراطية.
الاتحاد الأوروبي كان من أوائل الذين موّلوا المشاريع العاملة تحت هذا العنوان. فمنتصف العام الماضي، موّل مشروع «تعزيز حقوق الإنسان والديموقراطية في لبنان ــ إصلاح نظام العقوبات مع التركيز على إصلاح السجون» الذي قامت به وزارة العدل، بمساعدة تقنية من مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة. وهو الذي يتوخى «العمل على وضع استراتيجية شاملة لإصلاح السجون تحت سلطة وزارة العدل». وهذا يعني في حانب من الجوانب «العمل على نقل إدارة السجون من الداخلية إلى العدل، وتحسين أوضاع السجون والعمل على بناء القدرات القيادية داخل مصلحة السجون وتعزيز القدرة على تنظيم الأوضاع على نحو أكثر فعالية وأكثر إنسانية (...)». وقد تحققت إنجازات في هذا الإطار، لعل أهمها تبني الحكومة استراتيجية نقل السجن من الداخلية إلى العدل، ومن ضمنها البحث بآليات وإجراءات الانتقال.
وقد تم تطوير هذه الاستراتيجية من قبل اللجنة المشتركة المكونة من ممثلي وزارتي العدل والداخلية، وبالتعاون مع مكتب لمكافحة المخدرات والجريمة (...). وكذلك تم العمل على وضع «داتا» لجميع السجناء في جميع السجون (bassem system)، تعطي معلومات موثوقة ودقيقة، من شأنها أن تقود «إلى مؤشرات هامة لتحسين ظروف الاحتجاز ونظام إدارة السجن». وإلى كلّ ذلك، تضاف المراجعة القانونية ودراسة وتقييم مواد القانون اللبناني.
هذا بالنسبة للاتحاد الأوروبي، لكن ماذا عن الحركة الاجتماعية؟ قبل الدخول في غمرة الحديث عن المشاريع التي تقوم بها، ثمة ما يميّزها عن سواها. هذه، التي وجدت لكل «الإنسان» عملت منذ بداية مشوارها على ألا تكون لأحد. حركة علمانية لم تولد من رحم الطوائف. بدأت عملها عام 1994 مع فئة الأحداث في رومية. مع «الجزء الآخر» من الشريحة التي نشأت لأجلها خارج القضبان، تقول طانيوس.
من القانون، كان عبورها إلى رومية، فعملت بالتعاون مع جمعيات أخرى عن فصل الأحداث عن الشباب، إضافة إلى تنظيم نواح قانونية أخرى.
أما بالنسبة إلى المجالات العاملة عليها مع السجناء، فكان المحور الأساس فيها الدمج بين المهني والاجتماعي في عملية التدريب. وعلى هذا الأساس، كان الرابط بين «الصنعة» والهدف من ورائها أساسياً لا عبثياً. هكذا، يصبح العمل مدخلاً «للاندماج مع المجموعات وحل النزاعات على طريقة رابح ــ رابح، إضافة إلى تحصيل المردود»، تقول طانيوس. لا ينحصر عالم السجن بهذا الجانب، فثمة جوانب كثيرة، منها الاجتماعي والترفيهي والتربوي والنفسي أيضاً، وهو الجانب الأهم داخل السجن وخارجه أيضاً، حيث تعمل الحركة على أهمية الاندماج في «الداخل والخارج من خلال مراكز إعادة الاندماج». هنا، تكون العملية الأصعب. عملية إعادة الفرد إلى الحياة التي انقطعت.
لم تعمل الحركة وحيدة في السجن، فهناك الكثير من العاملين ومنهم جمعية عدل ورحمة التي كانت أولى الداخلين إلى عالم «المنفيين». يومها كانت الصورة مبتورة: عند أسفل تلة رومية مجتمع الطبيعيين وفي سجنها «نرمي قمامتنا». دخلت «عدل ورحمة» في العام 1998، فوجدت أن ثمة حاجة للإجابة على مآسي السجناء. هناك، اكتشف الأب هادي عيا، رئيس الجمعية، مجتمعاً آخر المسجون فيه مسجون «عرضاً». إنسان لديه أزمات «ويحتاج إلى حل لها، من هنا عملنا جاهدين ليكون السجن مكاناً للحل لا لزيادة الأزمات أزمة إضافية»، يقول. وقد عملت الجمعية على 3 صعد: الوقاية قبل الدخول، والمتابعة داخل السجن، وإعادة الاندماج في الخارج. أما بالنسبة للعمل، فعمودي وأفقي يتنوع على عدة صعد، منها الاجتماعي (محو أمية وموسيقى ورسم ورياضة..) والصحي وخصوصاً الوقاية، ومنها الحقوقي وخصوصاً الاستشارات، والنفسي وهو الأهم. الأهم لأن من دخل رومية «عرضاً» سيخرج منها مجرماً. بنظر المجتمع على الأقل. من هنا، كان لا بد من هؤلاء.