من الذي استيقظ قبل الآخر؟يحار سائق التاكسي، العامل على خط سجن النساء ـ بعبدا، في الإجابة عن هذا السؤال، وهو ينظر إلى الوحيدين هناك: حارس «غرفة الموت» في مستشفى بعبدا الحكومي، والعجوز المكوّرة عند مدخل السجن، وقد صارت بمقاس طفل.

هذا الرجل، الذي يظنّ أنه يسابق الصحو في عمله، سيجد من سبقه إلى الساحة المشتركة بين السجن والمستشفى. ذلك الحارس الذي عوّدته كثرة الموت على الأرق، وتلك الأمّ التي نقلت نصف أيام أسبوعها (الثلاثاء والخميس والسبت وهي الأيام المسموح بزيارة الأهل فيها لسجيناتهم) إلى سجن النساء، حيث «تعيش» ابنتها منذ خمس سنوات «تقريباً».
يقول «تقريباً»، لأنه لم يستطع يوماً محادثتها. فهي تشيح بوجهها كلما اقترب منها أحد. يقدّر هذا الرجل أنها تحضر باكراً كي «تأخذ الموعد الأول، فلا يتعرّف إليها أحد». وهذا ما يقوله حارس السجن أيضاً. ويقوله الكثيرون. فهنا، في هذا المكان، نساء «عاصيات»، يصعب على منتظريهم التعرّي فيه من الخجل أو البوح بالجرم الحقيقي الذي ارتكبنه. ولا أحد يجرؤ على سؤال هؤلاء الواقفين بـ«ذلّ» عن الجرم الذي حكمت به المسجونة أو مدة السجن. وحدهم، حراس السجن يعرفون التهم «بالتفاصيل»، وخصوصاً من صار له «عمر في الخدمة في هذا المكان». يقول أحدهم، معلقاً على الشاب المنتظر دوره للدخول لزيارة أمه «هيدا مضروب الموسم عنده»، في إشارة إلى «عمل» أمه في المخدرات. «أتفه» التهم بحسب هذا الحارس «شوية دعارة أو تزوير». لم يكن الحارس يتكلم بذلك «النفس عندما أتيت إلى الخدمة، لكن هناك بعض النساء عندن وقحنة، بيطلعوا وبفوتوا على السجن وكأنه حدث عادي وكذلك أهاليهن يحضرون يوم الزيارة مع الأولاد وكأن السجن مدينة ملاهي».
لكن، ماذا عن عائلات المسجونات؟ في قاموس هؤلاء، لا وجود لتلك التعابير. وإن سئلوا عن الأحكام مثلاً، فلن يجيبوا إلا ضمن ما هو مقبول اجتماعياً أو ما يمكن استيعابه، بحيث تصبح تهمة تجارة المخدرات «سيجارة» والسرقة «اعتداء جنسياً». لا شيء يبقى هو نفسه إلا الحديث عن التكاليف المادية، فتكرّ سبحة الأخبار «التي توجع القلب». لا يمكن الاعتراف بغير هذه الناحية. وهذا مبرّر في عرف من يجهدون لرتق هذا التشوه. فهنا بعبدا، حيث «العاصيات». لا روميه ولا أي مكان آخر يصبح فيه «السجن للرجال». في بعبدا، اليوم الواحد وراء القضبان يعادل «المؤبد»، يقول ابن إحدى السجينات، فكيف الحال بخمس سنوات؟
مجرّد أنها «هي»، يفرض «علينا أن نستوعب كل ما قد يقال»، يتابع. هذا الشاب، الذي لم يكمل عشرينه، استوعب «خطأ» أمه، فهو يعرف بأنها «مهما ارتكبت من ذنب، فهي ارتكبته لأجلنا نحن وبسبب والدي». مع ذلك، يجد من الصعوبة بمكان تقبل وجود أمه هناك أو حتى تسمية ذنبها جرماً، برغم السنوات التي حكمت بها، فهي بالنسبة إليه «غلطانة متل غيرها من الناس، بس أفضل من غيرها إنها ما عوزتنا شو ما كان شغلها». ويسأل «هل أمي فقط هي من حملت سيجارة؟». وعندما نسأل: حكمت من أجل سيجارة؟ يجيب «إيه، فيها شوية حشيش وضيّفتها.. بس ولاد الحرام كتار».
«شوية حشيش» ستبقيها وراء القضبان خمس سنوات: أربع حكمت بها وواحدة أضيفت بعد الإدغام. مرّ منها عام واحد وبقي 4. وفي السنوات الطويلة المتبقية، سيكون على الابن صون السر: «يعني حشيشة مش مخدرات»، يقول الحارس. وسيكون عليه أيضاً واجب زيارة أمه كلما سمحت له ظروف عيشه. في بداية الحكم، كان الشاب يزور أمه «ثلاث مرات في الأسبوع». أما اليوم، فقد لعبت «القلّة» دورها، وصار يزورها مرة كل أسبوع أو «على التساهيل». ومع هذا التغيير أيضاً، طرأ التغيير على الأكل. صار «التقشف» واضحاً. كل «المينو» صار «لايت»، بلا لحمة. معكرونة بخضار ومسقعة «حتى أمي تغيرت طلباتها» واتجهت أكثر نحو «البطاطا». «كله أكل»، لكن تبقى معضلة واحدة، وهي «المصروف الأسبوعي للدخان والقهوة وبعض الحاجيات التي صار لزاماً على السجينات شراؤها من دكان السجن». لكن، أي دكان؟ هنا، تبرز المشكلة التي يعاني منها سجناء لبنان، وهي قصّة القرار الصادر مؤخراً والذي يحتم على كل السجناء الشراء من «الدكان المركزي» في رومية. وهنا، المشكلة «العويصة»، يقول الابن، إذ إنه «بدل أن أشتري كروز الدخان بـ15 ألفاً من أي دكان، بت الآن مضطراً لإعطاء أمي 15 ألف وtva لأن سعر الكروز غير في رومية». وهي مشكلة «خطيرة»، بحسب رئيس جمعية «عدل ورحمة»، خصوصاً «بالنسبة للفقراء، ففي بعض الأحيان قد يتبرّع أحد البائعين لهم ببعض حاجياتهم، ومع هذا القرار صار لزاماً عليهم تأمين المال للسجين لشراء ما يحتاج إليه من دكان السجن أو حرمانه منها، والأنكى من ذلك هو أن السجناء أنفسهم لا يشترون حاجاتهم مباشرة، بل عبر وسيط».
هذا القرار أجبر أيضاً فاديا (اسم مستعار)، ابنة إحدى السجينات، على العمل في البيوت من «أجل توفير احتياجات أمي من أكل ومال». فاديا، الأم لأربعة أولاد، صارت اليوم تعيل خمسة. وربما تفوق «كلفة» أمها الأسبوعية ما تصرفه في البيت مدة شهر. الأسبوع الماضي، كانت هناك تحمل لأمها «طبخة ملوخية وحرحورة وسودة دجاج وشوية لحمة، وقد كلفتني هذه الطبخات حوالى 70 ألفاً». كلفة يضاف إليها الجهد ومصروف الذهاب والإياب على طريق السجن التي لا تتوفر عليها إلا سيارات الأجرة التي يبدأ عدادها من الألفي ليرة إلى العشرة آلاف. لهذا السبب، دفعت فاديا 80 ألفاً «بدل تاكسي، لأني جبت ولادي لتشوفهم أمي».
ولهذا السبب أيضاً دفعت أم السجين «ظلماً» في رومية 10 آلاف ليرة وصارت تبحث عمن يتبرّع بإنزالها من السجن، بعدما «نفضت» جيبها من كل ما تملكه. هذه السيدة، التي صار لها من العمر الكثير، كانت السبت الماضي في زيارة ابنها. كانت خفيفة بلا حمل، باستثناء كيس من النايلون الأسود تحمل فيه ورقتين «هما ورقتا الخروج لابني بعدما انقضت السنة التي حكم بها». دخلت إلى موعد الزيارة بفرح، وخرجت منه مكلومة. هناك، طلبوا إضافة إلى الورقتين «900 ألف ليرة لبنانية». لا تملك منها إلا ما «ستقبضه زوجة ابني وهي 600 ألف ليرة لبنانية». سيبقى 300 ألف ليرة لبنانية.. و3 أيام لعيد السنة الجديدة «فإما بنعيّد سوا أو بيقضي إيام بدالهن». والخيار الثاني هو «المرجح»، فهي تعرف في قرارة نفسها أن الوصول إلى الـ300 ألف «صعب».
لا يختلف هذا الحال عن حال آخرين يرتقون فقرهم بما تتبرع به الجمعيات وبالشيء القليل الذي تقوم به الدولة. وهؤلاء مقسومون إلى 3 فئات: إما أجانب وإما تركهم أهلهم بإرادتهم وإما فقراء. والأخيرون كثيرون، وإلا فما الذي يدعو غالبيتهم للقضاء في السجن إلا الفقر؟ اسألوا أمهاتهم.. أو سائقي الأجرة. فهؤلاء صاروا يعرفون أحوال أهالي السجناء. «بنعرف من اليومية اللي عم نطلعها»، يقول أحد سائقي التاكسي. فهذا الرجل الذي يصل إلى رومية عند الساعة السادسة صباحاً ولا يغادرها إلا عند الرابعة من بعد الظهر، لا يأتي إلا بغلة قليلة سيصرفها في اليوم التالي على «البنزينات»، يقول.
قبل بضع سنوات، لم يكن الحال قد وصل إلى هذا السوء «كنا نطلّع منيح». كان ذلك، عندما كانت الناس «بألف خير». كانوا في حينها يجنون «الكثير من المال خصوصاً في أيام الزيارات». أما اليوم، فالناس صارت بلا دخل. وكلما «نفضت» الجيوب، صار السجناء وحيدين. هكذا، صار الثلاثاء كما الأربعاء، يوماً عادياً في يوميات الجحيم.