في إصلاحية الأحداث في الفنار، لا يمكنك إلا أن تلاحظ علي أولاً. فهو الأقصر قامة بين الأحداث. قصر قامته هذا لا يدلّ إلا على انقضاء تسعة أعوام منها فقط. في التاسعة دخل علي الإصلاحية، وفي التاسعة بدأ العمل وفي التاسعة أيضاً تشاجر مع أمّه وهرب إلى منزل جدّته.
وإن كان القانون 422 قبل التعديلات الجديدة المقترحة يحدّد عمر الحدث من السابعة إلى الثامنة عشرة عاماً، إلا أنّه لا يمكنك التخيّل أنّك ستلتقي أطفالاً بعمر علي في إصلاحيّة الفنار التي يديرها «الاتحاد لحماية الأحداث في لبنان». يحفظ علي تعابير كثيرة لا يمكن أن يفهمها أي طفل عادي آخر في مثل سنّه، لكن لا يمكنه أن يحفظ عمراً آخر له غير التاسعة. سيجلس للحديث عن «جنحته» وسيقول إنّه هنا في قضية «حماية». أي إنّه يحتاج إلى من يحميه من بيئته وأقرب المقرّبين إليه، بعدما صُنّف بسببهم من «الأطفال المعرّضين للانحراف أكثر من غيرهم». لكن علي يعود ابن التسع سنوات عند الحديث عن والده. فهو لا يعرف أن يقول إنّه «مكتوم القيد»، بل يحكي أنّ أمّه تخدم في المنازل ويفتح عينيه الواسعتين ويضمّ جسده على بعضه عندما يقول «ما بعرف بيي وين راح».
كثيرون هم الأطفال الذين يشبهون علي، أي مكتومو القيد، ويمرّون على الإصلاحيّة بحسب مديرها حسين سلمان. يحاول الأخير مساعدتهم قدر المستطاع، فيتعلّمون مهنة ثم يؤمّن لهم عملاً خارجها، ومنامة في داخلها حتى تتأكّد الإدارة أن الأولاد سيجدون إلى العيش سبيلا خارج «الحماية». ينتمي الأحداث المتوالون على الإصلاحية إجمالاً إلى خانتين. هم إمّا من مكتومي القيد أو آتون من عائلات مفكّكة، وجد الأبوان في الطلاق ذريعة لنفض أيديهما من أطفالهما. وبحسب سلمان فإنّ الأهل هم الحلقة الأولى في سلسلة المسؤولين عمّا يؤول إليه هؤلاء الأولاد. فبعد عشرين سنة من العمل في الاصلاحية، يرى سلمان أنّ ليس كلّ من حمل وثيقة زواج أصبح أهلاً للإنجاب، وأنّ معظم الأحداث في الإصلاحيّة يأتون من بيئة «مكتظة». عدد كبير منهم يدخل الإصلاحية في عمر المراهقة وهو لا يعرف القراءة والكتابة، فيبدأون مسيرتهم في صف محو الأميّة.
طلال يحمل على وجهه علامات شجار طازج. تشاجر هو وأحمد في الصباح. لكن الآن لا ضغينة بينهما. والد طلال أحضره إلى الإصلاحية. نسأله عن السبب. «غلطت بحقّ أختي. عملت شي وسخ معها» يقول. هكذا يبرّر طلال وجوده في إصلاحية الأحداث. لكن ابن الرابعة عشرة فعل ذلك عندما كان في التاسعة. طلال يضع ذنبه في الواجهة ليستّر عن ذنب أمّه. فوالده حمله إلى الإصلاحية ليبعده عن والدته التي لا يكفّ عن الهروب ليراها. والدة طلال تستغله جنسياً من أجل المال. فترسل ابنها هدية للرجال، يشبعون بها رغباتهم الجنسيّة، أو للطرقات للتسوّل والسرقة. لكن بالنسبة إلى طلال هذه أمّه التي يحبّها كثيراً وتحتاج إلى المال. يفهم الآن المراهق أنّ أمّه تطلب منه أن يفعل ما هو «مش منيح». لن يكفّ عن حبّها لكنه سيخرج من الإصلاحية «إنساناً جديداً».
يقول المرشد التربوي والمعالج النفسي في الإصلاحية روبير كركاش إنّ 90% من الأولاد يخرجون من الإصلاحية ليصبحوا أشخاصاً أفضل، ينجحون في بناء حياتهم الخاصة، واصفاً تجربة الإصلاحية بالناجحة. «فهؤلاء الأطفال هم ضحايا مجتمع وعائلات مفكّكة ومحيط فيه الكثير من الكذب. يصلون إلينا مشوّهين بكل تلك الأمور وعلينا أن نهدم ما كان لنعيد البناء من جديد». ويضيف أنّ معظم الأطفال في الإصلاحية لم يرتادوا المدارس وبدأوا بالعمل في سن مبكرّة جداً، وهم يعانون من نقص تربوي وعاطفي، يخلق لديهم شعوراً بالحرمان يجعلهم يرتكبون الجنحة، التي لا تكون سببها بالضرورة الحاجة.
قد تختلف نتائج سجن الأحداث في سجن رومية، نظراً إلى اختلاف الظروف التي يعيشون فيها هناك، الأمر الذي يثير القلق بما أنّ سجن أحداث رومية يضمّ حوالي 70 ولداً بينما إصلاحيّة الفنار لديها الآن 21 ولداً. في الأخيرة يحاول المعالجون النفسيون والمساعدات الاجتماعيات أن يساعدوا الولد كما الأهل، بما أنّهما من سيحتضنان الولد من جديد عند خروجه. لكن سلمان وكركاش يقرّان بأنّ العمل مع الأطفال أسهل بكثير من العمل مع الأهل. ويرى سلمان في المؤسسات البديل الأفضل من الأهل «غير المؤهّلين» للاعتناء بأطفالهم. «لكننا اليوم بحاجة إلى مؤسسات أكبر وأفضل للقيام بهذا العمل». يتذكّر مدير الإصلاحية الوضع قبل الحرب الأهليّة. «كان لدينا المباني الثلاثة التي نحتاج إليها. دار الملاحظة التي يتمّ فيها توقيف الحدث والتحقيق معه. مبنى الإصلاحية الذي يذهب إليه الحدث إذا ما صدر عليه حكم، ومعهد التأديب الذي يضمّ الحالات الصعبة». اليوم تختصر الدولة هذه المؤسسات بمؤسسة واحدة هي إصلاحية الأحداث، فيما يجري توقيف الأحداث والتحقيق معهم في المخفر!
تعتمد إصلاحية الفنار بشكل أساسي على التبرّعات لتسيير أعمالها، وقد اتخذ وزير العدل شكيب قرطباوي مؤخراً قراراً بتخصيص جزء من ميزانية وزارة العدل إلى الإصلاحية. هذا الجزء ولو أنّه مطلوب إلا أنّه لا يسدّ حاجات الإصلاحيّة، التي تحتاج دائماً إلى الدعم.