قبل بضع سنين، كانت صورة باميلا اندرسون، تلك الشقراء اللعوب، بمثابة كنز داخل السجن. كان لدى فؤاد واحدة منها. استطاع، برشوة الحارس، تهريبها إلى زنزانته.
من مثله، في رومية، وباميلا في حوزته؟ يضحك اليوم: «ايه رزق الله على هيديك الإيام». لا ينسى فضل تلك الصورة عليه، وعلى سجناء كثر استعاروها منه، وقد جلبت له تلك الحظوة و«المحبة» داخل السجن. اليوم انتهت الحكاية. أصبح الهاتف الخلوي في متناول كل سجين، باستثناء «المقطوعين من شجرة». ومع خدمة الإنترنت موبايل، ثم البلوتوث، دخلت باميلا إلى جمجمة كل سجين يريد.
هكذا، فقد فؤاد حظوته، وأصبح هو ولفافة الورق، التي كان يداريها كأعز أشيائه، من حقبة ولّت. عاد إلى صفوف الجماهير. لديه اليوم جهاز «آي فون» حديث. كل رفاقه يحملون هواتف من هذا النوع. لم تعد باميلا شيئاً مميزاً، فلا تعدو كونها مثيرة من بين آلاف المثيرات، اللواتي يمكن لفؤاد ورفاقه إرهاق عيونهم بأجسادهن.
خليل، السجين المؤبد، يملك جهاز «سامسونغ» ذا شاشة كبيرة. كان من أوائل من حمل هذا الطراز في رومية. يمكن القول أنه بات يملك، تقريباً، ما يشبه الكومبيوتر المحمول. لدى ذويه، في الخارج، ما يكفي من المال لمدّه به. اشترك بخدمة الإنترنت السريع، ودخل إلى عالم الشبكة العنكبوتية، كاسراً، نسبياً، فكرة حجز الحرية. تلك الفكرة التي بنيت لأجلها السجون منذ ما قبل الفراعنة. في الواقع، خليل لم يدخل إلى الإنترنت بقدر ما خرج من السجن. من زنزانة ضيقة، لا يتعدى عرضها الأمتار الثلاثة، خرج إلى عالم لا نهاية له. شاشة بحجم راحة اليد باتت بوابته إلى «كل شيء».
قبل أشهر، طلب صداقة إحدى الجميلات، من غير معرفة سابقة، على موقع «الفايسبوك». وقبل أن تقبل الصداقة، حدّقت في الصور التي يضعها على صفحته، ملياً، لتشعر بعدها بالريبة. من هذا؟ صور جماجم وأفاع وجسد مليء بالأوشام المخيفة. ما من صور لديه على الكورنيش، مثلاً، ولا على الثلج ولا في سيارة، ولا حتى قرب شجرة. جسد ممزق بفعل التشطيب. آلات حادة وزوايا كالخة. وجدت أن ثمة صديقاً مشتركاً، افتراضياً أيضاً، لكنه موثوق و«يشبه الناس العاديين». أرسلت إليه لتسأله عمن يكون ذاك «المخيف». أخبرها أنه سجين منذ أكثر من 19 عاماً. قال لها: «هذا صديقي. ولكن لا أضمنه». في نهاية الأمر قبلت صداقته، وراحت تتواصل معه، لتجد نفسها أخيراً «متعاطفة». بدأت الحكاية بخوف، ثم شفقة، ثم تتضامن وتفهم... وأخيراً حب.
إذاً، بات السجناء، في عصر التكنولوجيا، قادرين على الدخول في علاقات غرامية من داخل زنزاناتهم. في حالات أخرى، يتناقلها السجناء، حصل أن زارت بعض المعجبات السجن للتعرّف، وجهاً لوجه، إلى هذا «الصنف الجديد من الناس». هكذا تقول إحداهن، التي ما زالت بعد أشهر من التواصل مع سجين، تشعر بشيء من التوجّس. قلبت الهواتف النقالة حياة السجناء من حقبة إلى حقبة. ما قبل الهاتف وما بعده.
خلال السنوات القليلة الماضية، كانت القوى الأمنية تتعامل مع الهواتف المهربة إلى داخل السجن كممنوعات. ولكن، مع كل حملة تفتيش وضبط لهواتف بالجملة، كانت تحصل ردود فعل عنيفة وصل بعضها إلى الانتفاضة. آخر هذه الحالات حصلت قبل أسابيع في رومية. اليوم، يمكن لسجين أن يقول لك: «خذ ما تريد، الفاكهة التي تصلني، بعض طعامي، ولكن اترك لي هاتفي». باتت هذه الآلة، داخل السجن، نافذة تحمل حاملها إلى ما يذكره بأنه مثل الآخرين، وأنه مشى ذات يوم على الاسفلت.
في مرحلة لاحقة، راحت القوى الأمنية تتعامل مع «الموبايل» كواقع داخل السجن. حتى التقارير الأمنية، اليومية، ما عادت تجد في خبر «ضبط هاتف» ما يستحق الإيراد. مسؤول أمني يقول: «في سجون العالم، المتحضر طبعاً، توجد خدمة الهاتف للسجناء بهدف الاتصال بذويهم. لكن في لبنان ليس لدينا هذا النظام بعد، وما دامت الحال كذلك، بات صعباً علينا مواجهة السجين في خياره امتلاك الهاتف». أكثر من ذلك، فبعد أن أصبح الأمر واقعاً، كان لا بد للأمن أن يستفيد منه، فتم تجنيد سجناء للإبلاغ عن زملائهم المشاغبين. يمكن القول أن أجهزة الاستخبارات، بمختلف اسمائها، بات لديها سجناء مع «خط ساخن». في السجن سجناء يشكلون خطراً، بحسب الأمنيين، منهم الإسلاميون ومنهم الجنائيون. بعض الإسلاميين صاغوا بيانات عبر هواتفهم، قبل أن ينشروها على الإنترنت، إضافة إلى ردودهم على أسئلة السائلين.
في جولتنا داخل رومية، كانت عبارة «عندك واتس آب» من أكثر العبارات التي سمعناها. تطبيق الدردشة هذا يعيش السجناء داخله ساعات طويلة. عزلة داخل عزلة. ربما على المعنيين بشؤون السجون، اليوم، أن يعرفوا بأن الهاتف الخلوي أصبح للسجناء ضرورة، حاجة، أبعد من الطعام والشراب. إنه هواء خلف القضبان الذي يتنفسون.