في الطريق من النظارة إلى السجن كانت فاطمة تتخيّل ما ينتظرها. «المعلّمة» ترخي بظهرها على ظهر الكرسي، تضع رجلاً على رجل، وتدخّن نارجيلتها. ستومئ برأسها عند وصول فاطمة إيذاناً لها بالدخول لتتسلمها من بعدها النساء في الزنزانة ويتناوبن على ضربها.
كانت فاطمة طوال الطريق تفكّر بكل الطرق المتاحة لها للدفاع عن نفسها. وصلت إلى السجن ولم تجد الصورة التي استقتها من المسلسلات المصريّة عن السجن. ليس لأنه لا وجود لـ«معلّمة» هناك، بل لأن شكلها مختلف.

«المعلّمة»
محظوظة هي السجينة التي تدخل الزنزانة رقم 2. ففي تلك الزنزانة تسكن نيكول، و«من ليس عنده نيكول فليشترِ» كما تقول السجينات اللواتي اختارتهنّ «المعلّمة» ليؤنسن وحدتها ويخدمنها في زنزانتها الخمس نجوم. ليس لنيكول نارجيلة تنصبها أمامها لأنها «أكلس» من ذلك. تحتفظ بولاء السجينات لها، بكيس متجر «هارفي نيكولز- دبي» الذي ينام على سريرها. تعدّد «المعلّمة» أفضالها على من يسكنّ معها. «اشتريت لهنّ مكيّف الهواء (تدلّ إليه)، السجادة التي تكسو الأرض، دفعت تكاليف تصليح الحمّام... دفعت ما يقارب الألفي دولار لتجهيز الغرفة». تعلو أصوات السجينات الأخريات في الزنزانة «الله يخليلنا نيكول».
مضى على وجود «المعلّمة» في السجن أربع سنوات ونصف السنة. هي متّهمة «ظلماً وزوراً» بقتل زوجها. تقول نيكول إنّ زوجها وقع أرضاً أمامها في أحد الأيام، نقلوه إلى المستشفى وانطفأ هناك. كانت لديه مشاكل صحيّة عديدة، لكنها لم تخبر عائلته يوماً بها. حين توفي، صدر تقرير مخبري يعلن عن وجود مادة سامة في بوله، لكن نيكول تقول إنّ التقرير مزوّر وإنّ أهل زوجها اتهموها بقتله كي يمنعوها من وراثته.
تهتم نيكول بنا في زنزانتها وكأنها صاحبة الدار. لا ترضى أن نخرج من غرفتها من دون أن نشرب قهوة أو نسكافيه. «عيب، والله ما بقبل» تقول. ولولا أنّها أخبرتنا بنفسها أنّها سجينة لما كنّا حزرنا ذلك. تجلس متأنّقة وكأنّها تهمّ بالخروج. باب زنزانتها، على عكس الأبواب الأخرى، يبقى مفتوحاً لتتنقل على راحتها بين الإدارة والزنزانة. ومن يسكن الزنزانة رقم 2، لا يأكل من «القروانة»، أو أكل السجن الذي يُثير قرف «المعلّمة»، وأي شخص آخر. تتراوح الخيارات في غرفة «المعلّمة» من طعام العائلة، إلى الطعام الجاهز الذي تطلبه نيكول، أو إن رغبت، كوسى محشي «تنقره» سجينة وتطهوه لها أخرى في المطبخ. لا تجرؤ إحداهن على أن تبدأ حديثها من دون أن تطلق جملتين لشكر «المعلّمة» بداية. ينظّفن الغرفة، يُطعن، ويستأذنّ قبل فعل أي شيء، فقط من أجل البقاء في غرفتها وتحت رعايتها.

النساء هنّ النساء
بعيداً عن الزنزانة رقم 2، تبدو الغرف الأخرى أكثر اكتظاظاً، أكثر شحوباً وبرودة. تقول إحدى السجينات «كلّما أنظر إلينا أتذكّر قول عادل إمام: سايبين الشقّة كلّها وساكنين في أوضة». فالسجن الذي يتّسع لـ45 سجينة يضمّ 81. ورغم الاكتظاظ، تبدو الغرف نظيفة. «ماذا تتوقعون، هذا سجن النساء!» يقلن. كل واحدة منهنّ لها دور في عمليّة التنظيف اليومي. تعرض حنان (اسم مستعار) المياه التي ينظّفن ويستحممن بها في وعاء. لونها يميل إلى الاصفرار. لا يعرفن علام تحتوي لكن الأكيد أنّها تسبب لهنّ حساسية جلديّة. تكشف حنان عن رجليها وصديقتها عن يديها. بقع حمراء داكنة تنتشر عليهما. موضوع المياه يؤرق معظم السجينات لكنهنّ يقلن إنّ كل طلب تتقدّمن به إمّا لا يلقى آذاناً صاغية أو يتطلّب وقتاً طويلاً جداً لإجابته.
قليلات هنّ السجينات اللواتي يغيّرن ثياب النوم خلال النهار. فبعد مرور السنة الأولى في السجن، تلفظ نفسياتهنّ الكئيبة موضوع التبرّج والاهتمام بالشكل الخارجي. تتذمّر السجينات كثيراً من معاملتهنّ كالرجال. ترتفع أصواتهنّ ليعبّرن عن غضبهنّ من موضوع الأحكام المماثلة بين الرجال والنساء. يردن أحكاماً بسنوات مخففة للنساء. «مفكرين المرا بتتحمّل متل الرجّال» يقلن.

وراء كل سجينة... رجل
قد لا يكون الأمر كذلك، لكن اللافت أن الزوج هو الضحيّة الأولى في جرائم القتل التي ارتكبتها معظم نساء سجن بعبدا. تقول المديرة كريستيان أبو ناهض إنّ النساء اللواتي قتلن أزواجهنّ يعانين من العنف المنزلي في أغلب الأحيان، وفي حالات أقلّ قمن بهذا الفعل نتيجة عدم اهتمام الزوج بهنّ.
تعبت الحارسة من نهي فاتن (اسم مستعار) عن البكاء طوال الوقت. السيدة التي لم تتخطّ الرابعة والعشرين من عمرها، تبكي كالأطفال وتردّد أنها تريد العودة إلى بيت أمّها. هي الكبيرة بين 9 أطفال. كانت تدرس لتصبح ممرّضة عندما تعرّفت إلى زوجها. لم تكن تريد الزواج لكنه بقي مصراً عليها وعلى أهلها حتى زوّجوه إياها. حين دخلت منزلها الزوجي مُنعت من متابعة دراستها وأصبحت حياتها كما تقول: «عذاب بعذاب. بفيق عقتلة وبنام ع قتلة»، حتى طفح الكيل. في إحدى الليالي، تقول فاتن إنّها كانت «مروبصة»، انهالت بالضرب على زوجها النائم، ثم طعنته أخيراً بسكين. تقول «لو كان هناك من يساعدني أو يكفّ شرّ زوجي عنّي لما وصلت إلى هنا». لم تكن إصابة زوجها خطيرة، تعافى ووقّع ورقة طلاقها وتنازله عن شكواه ضدّها. لكن فاتن لم تخرج حتى اليوم، ولا تعرف لماذا.

اسمي «خلص»
«اسمي خلص» تقول السجينة لنفهم أنّ حياتها انتهت. انتهت قبل أن تبدأ. ففي السادسة عشرة من عمرها زوّجها أهلها لرجل تقول إنّه مضطرب نفسياً. كان يقضي نهاره بتعذيبها، وفي التاسعة عشرة دخلت السجن بتهمة قتله. السجينة التي ترفض ذكر اسمها، يبلغ عمرها اليوم 28 سنة ولديها عشر سنوات أخرى تقضيها في السجن. منذ سنة فقط صدر الحكم عليها بالسجن 18 سنة. انتظرت سبع سنوات قبل أن يصدر الحكم. سجينات كثيرات غيرها يعانين من المشكلة ذاتها. تركن ليتعفنّ في السجن قبل أن تتكرّم الدولة عليهنّ بمحاكمة. فاطمة تعيش معها في الزنزانة نفسها. قالوا لها إنّ قضيّتها سهلة بما أنّ تهمتها هي السكوت عن جريمة قتل قام بها زوجها. مع ذلك قضت حتى اليوم ثلاث سنوات ونصف السنة في السجن، من دون محاكمة.
ينبعث الكره من عينيّ «خلص» عندما تتحدّث عن زوجها الذي «لم أقتله» وعن «القضاء الفاسد». جميع السجينات يشدّدن على الموضوع الأخير. برأيهن، وإن كنّ مذنبات، فإنّ «القضاء قوي بس على الفقير». فمن كان «مدعوماً» يفعل ما يشاء من دون أن يقترب منه أحد. ويضفن أنّ من تدخل السجن بتهمة الدعارة تغادره خلال يومين، «إذ إنّ الدولة تدعم وتستفيد من تلك الفتيات».
تقول «خلص»، وباقي السجينات، إنّهنّ تيمنيّن لو كنّ يعرفن أنّ عشرة آلاف ليرة في مخفر حبيش، كفيلة بإبعادهنّ عن السجن. حتى اللواتي كنّ يعرفن بموضوع الرشاوى، يقلن إنّ المعرفة شيء وامتلاك العشرة آلاف ليرة شيء آخر. لكن «خلص» تضيف أنّ السجن هنا ليس لتأهيل البشر، بل هو لتدميرهم وجعلهم أخطر ممّا كانوا عليه. إذ تقول إنّها ستعود لتخرج إلى الفقر بعد عشر سنوات وعندها «سأمارس الدعارة».

نجوى
تصرخ نجوى (اسم مستعار) من على سريرها: «أنا مش متهمة، أنا عاملة وإلي الشّرف إنّي عاملة». ماذا فعلت نجوى؟ زوّرت أوراقاً وباعت أراضي، ليست لها، باسمها. تقول إنّ «مشغّليها» هم سياسيون وأحزاب، لكنها تضحك وتضيف أنّها حلفت يميناً بأن لا تريهم قرشاً من العملية. ذهبت وصرفت الأموال في الكازينو انتقاماً، فرموها في السجن. تضيف أنّهم يخافون منها وأرسلوا لها رسائل تهديد إلى مراكز التحقيق. تحاول جميلة (اسم مستعار)، الجالسة إلى جانبها، نهيها عن الكلام. «لا تؤذي نفسك يا خوتة» تقول لها. جميلة المتهمة بالإدمان على المخدرات تقول إنّ أذنها تضررت بشدّة بسبب الضرب الذي تعرّضت له لدى المحققين. كذلك تقول نجوى إنها تعرّضت لضرب مبرح على أيدي المحققين في مخفر الجديدة.

عفاف بريئة
بعد أربع سنوات ونصف السنة قضتها عفاف في السجن بتهمة قتل ابن خالتها، حكم عليها بالبراءة. جميع السجينات عندما ينتهين من إخبار قصصهنّ يستشهدن بعفاف التي «ستخرج غداً من السجن، بعد ظهور براءتها». وكأنّهن كلهنّ عفاف. كلّهنّ بريئات والدليل هو ما حصل مع عفاف. إلى جانب سنواتها الضائعة، لا تعرف عفاف بأيّ وجه تخرج من السجن. ابنها وعائلتها ينتظرانها في الخارج، لكنها بلا حيلة. قبل السجن كانت متزوّجة وتعطي دروساً خصوصيّة، بعده أصبحت مطلّقة ولا تعرف كيف تعيل نفسها وابنها. السجن جعل منها شخصاً أسوأ، كما تقول، وسلبها إمكانية العيش الشريف. تقول «دخلت إلى هنا عاقلة، وها أنا أخرج مع دورات مجّانية في تعاطي المخدرات والسرقة والقتل ولا شيء غير ذلك. وحين أخرج عليّ أن أبدأ على الأقلّ بإعادة تأهيل لساني الذي صار يردّد كل الألفاظ البذيئة التي يمكن لشخص أن يتخيّلها».

هروب سميحة
سميحة في الثانية والخمسين من عمرها، وهي محكومة بعشر سنوات سجن في خمس قضايا مخدرات وإتجار بها. تعترف بتورّطها بقضيتين، أما القضايا الباقية فـ«لزقوني ياهن». تقول إنّها فعلت ذلك لتعيل أولادها. وبعد مضي سنتين على وجودها في السجن تعرّض ابنها إلى حادث ودخل في غيبوبة، عندها هربت سميحة مع أربع سجينات أخريات من السجن على الشراشف المعقودة. هربت من شباك إحدى الغرف ثم أكملت رحلتها إلى تركيا. بقيت هناك سنتين وعادت عندما ألقوا القبض على ابنتها بتهمة الإدمان على المخدرات.

أمينة ورضوان مرتضى
تلتحف أمينة بحرامها ولا تقوى على الحراك. هي تعاني من ارتفاع ضغط الدم في جسدها. ما إن تعرف بوجود «الأخبار» في السجن حتى تكرّر جملتها الوقت كلّه: «أمانة سلّمي على رضوان مرتضى». عندما تخرج أمينة، المتهمة بالسرقة، تريد أن تذهب مباشرة إلى الزميل رضوان مرتضى لتخبره عن الذلّ والظلم اللذين تعرضت لهما. تعترض أمينة على دكّان السجن الذي يبيعهنّ بضعف الأسعار. يرتفع في السجن الصوت ضدّ الجمعيات، كلّ الجمعيات التي تجمع الأموال باسمهنّ لا تقدّم لهنّ أيّ مساعدة بحسب ما يقلن. خاصة تلك الجمعيات التي تعدهن بتوكيل محامين لهنّ ثم تنسى أمرهنّ.

سجينات حزب الله
في زنزانة في الطابق الثاني يعلو صوت السجينات ضدّ حزب الله. فهنّ ضبطن من قبل عناصره، كما يقلن، في الضاحية الجنوبية أو البقاع وهنّ يتعاطين المخدرات. «خانهنّ» الحزب وسلّمهنّ إلى الدولة. يصرخن أنّ الأحزاب الأخرى تحمي أبناء طائفتها أمّا حزب الله فيسلّمهنّ. «وحدهم الشيعة تنزل عليهم أشدّ العقوبات في السجن» يقلن، ويستشهدن بزميلتهنّ في الزنزانة التي حكمت بالسجن المؤبّد مع زوجها بتهمة القتل. هي الوحيدة التي نالت المؤبّد في سجن بعبدا. «لكن هل كان السيّد حسن ليرضى بما يفعله أعضاء الحزب هؤلاء؟ هل كان ليرضى بتسليمنا؟». يجزمن بأنّ «السيّد» لا يعرف ولا يقبل.

نيكول مجدداً
ونحن نهمّ بالخروج، نلتقي بنيكول مجدداً. هذه المرة كانت تستقبل صديقتها، لكن ليس في المكان المخصّص لزيارة السجناء طبعاً. بل تجلس «المعلّمة» مع ضيفتها على كرسيين أمام باب السجن الخارجي... في انتظار القهوة.




المديرة مدرّسة سابقة

تدير مديرة «سجن بعبدا المركزي للنساء»، كريستيان أبو ناهض السجن منذ أربع سنوات. قبل ذلك كانت معلّمة مدرسة. تقول إنّها تعرف مفاتيح النساء. تحكم القبضة على السجينات كما على الحارسات وتعاقب الإثنين بشدّة لتمنع أيّ إخلال بأمن السجن. في حال حدوث شجار بين امرأتين «أعاقب الإثنتين على حدّ سواء، حتى ما عادت النساء يتجرأن كثيراً على الشجار». برأيها إدارة سجن النساء أكثر سهولة من إدارة سجن الرجال، بما أنّ «حبّ النساء للنميمة» يساعدها في عملها. هكذا تكتشف ما سيفعلنه قبل حدوثه. للمديرة أيضاً في كل زنزانة «جاسوسة» تنقل لها أخبار السجينات والحارسات على حدّ سواء. ومع أنّ السجينات يحببن أن تقع الفتنة بين المديرة والحارسات إلّا انّ أبو ناهض تقول إنّ هناك دوماً شيئاً من الصحّة في ما يقلنه.
في المقابل تتحدّث عن المشاكل التي يعاني منها السجن. من اكتظاظه، إلى التأخر في صيانة المركز. «كلّ شيء هنا يحتاج إلى إذن. في بعض الأحيان يؤخّرنا الروتين الإداري وفي أحيان أخرى غياب الموازنة». كما يعانين من المدمنات على المخدرات بما أنّهن أكثر من يحاول الانتحار عبر ابتلاع بعض الأشياء، ولا تنسى القول إن في السجن «ثلاث إلى أربع حالات ولادة» في السنة.