في حضوره كما في غيابه، تظل تجربة أنسي الحاج موضع نظر واستعادة وتحليل ونقاش، ويظل هو الشاعر الذي كان أول من نظّر لقصيدة النثر العربية بطريقة متماسكة وقابلة للاستمرار. صحيح أن أغلب أفكار مقدمته الشهيرة لباكورته الأشهر «لن» – وهو أمر لم يكن سراً على أي حال – كانت مأخوذة من أطروحة سوزان برنار ومن شعريات النثر الفرنسي، ولكن حضور تلك المقدمة كمانيفستو عربي أول، ومعها قصائد «لن» التي كانت ترتطم باللغة وتتعارك مع الاستعارات أكثر مما تتألف منهما، منحا أنسي الحاج لقب عرّاب تلك البداية النثرية الشاقة التي تقوّت أكثر بنشوئها داخل مختبر مجلة «شعر» وأطروحاتها الجديدة وطموحاتها الحداثية الحادة.
سيظل البعض يُبدّي الماغوط وشعريته اليومية السهلة – الممتنعة على جملة أنسي الاعتراضية والوعرة والمتلعثمة (أنا متلعثمٌ كبير، قال في «لن»)، وسيظل، في المقابل، من ينحاز إلى وعورة الثاني على حساب شفوية الأول، ولكن في الحالتين، لم تُنقص هذه التفضيلات والانحيازات المتقابلة من ريادة الاثنين لقصيدة النثر العربية.
الفارق بينهما، حدث لاحقاً، حين وُلدت أجيالٌ متتالية من شعرية الماغوط اليومية أو شعرية التفاصيل، والشعر الشفوي، بحسب ما سماها النقاد والشعراء معاً، بينما لم تجد نبرة أنسي أتباعاً ومريدين بالكثرة ذاتها، بل بدا أن تجربة أنسي باتت منذ بدايتها ابنة نفسها، وبدا الشاعر نفسه في مجاراة مستمرة للغته ومعجمه ومخيلته الشخصية، وبدت قصيدته منطوية على عصبها الأول، وعلى هجومها العاصف على اللغة، وعلى هجرها الواعي للغناء الشعري المنمّق والمائع والساذج، وعلى نأيها عن الجمال الأدبي التقليدي. قصيدة الماغوط حظيت بتنمية مستمرة واستثمارات متوالية، بينما عَصِيتْ قصيدة أنسي على مخططات مشابهة للتنمية والتكييف والاستثمار. ويمكن القول إن ديوان «لن» كان بداية مفتوحة اتسعت لما صدر بعدها. وما صدر بعدها ظل يحوم حول «لن» ويجاورها، ويحفر تحتها، ويتنفس في كنف فقاعتها الأصلية. شعر أنسي الحاج ظل موجوداً في «لن»، وظل مديناً لتلك الباكورة التي لم تفقد حتى اليوم زخمها الرهيب وقيمتها الاقتحامية. الفَزَع الذي أحدثته «لن» كان فزعاً وجودياً خارجاً من فزع صاحبها، ومن ضجره بالجملة العربية الكاملة وهياكلها التقليدية. جزءٌ من قسوة «لن» أنه مكتوب بالتأتأة وأشباه الجمل والسطور المتقطعة والفقرات المبتورة غير القابلة للنمو. حضرت التأتأة والتقطيع والبتر في «الرأس المقطوع» أيضاً، ثم بدا لنا أننا نعثر في دواوينه التالية على جمل تامة، وسطور منتهية، وفقرات كاملة. وهكذا، رأى البعض أن أنسي في «ماضي الأيام الآتية»، ثم «ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة»، أنهى تجربة وبدأ تجربة أخرى، وأنه أدخل شيئاً من الغناء والإنشاد والتصوف الإنجيلي في «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع»، وفيها قال: «أنا الشيطان أقدّم نفسي/ لقد غلبتني الرِّقة». نعم لقد غلبت الرِّقة شيطان «لن»، ولكن ذلك لا يبدو دقيقاً تماماً. جملة أنسي المبتورة اكتملت إلى حد ما، وفزعه الأول سكن إلى حد ما، وعصْفُ لغته هدأ كذلك، ولكن معجمه ظل في طبعة «لن». كانت «لن» شوكة في تجربته وفي تجربة قصيدة النثر العربية كلها. كان في إمكانه تنقيح تلك الطبعة الأولى، وقد فعل، لكي يُوصل روحية باكورته بما جاء بعدها، ولكي يضمن حياةً أخرى لجملته الأولى، ولكي يسلّم «طفولة» لغته إلى شبابها وإلى كهولتها.
ربما كان الأفضل أن نبدأ من مكان آخر، ونحن نستعيد أنسي الحاج في ذكراه الثانية. أن نبدأ من «خواتم» التي أصدر منها كتابين، وواظب على كتابتها أسبوعياً في «الأخبار». أو أن نبدأ من مساهمته الجوهرية في صناعة صورة بيروت ومجدها الذهبي في الستينيات، أو أن نبدأ من طيفه الذي لا يزال يتجول في مكاتب الجريدة، ومن ضحكته المجلجلة في الممر الطويل بين المكاتب، ولكن المشكلة أننا حالما نذكر اسم أنسي الحاج، وهو ما كان يحدث في حياته أيضاً، تحضر معه «لن» وبقية محطات تجربته المتفردة. لقد التصقت به «لن» والتصق بها. أحبّ الكثيرون «ماضي الأيام الآتية»، وتابعت أجيال جديدة من القراء «خواتمه». بين الشعر والخواتم، انقطع أنسي الحاج عن الشعر لفترة غير قصيرة. كانت «خواتم» معبره إلى كتابة الشعر بطرق وتنويعات متعددة. كانت «خواتم» حيّزاً ذكياً وواسعاً لتمرير أفكاره وتأملاته و«عابراته» المكثفة والشديدة الشعرية. في «خواتم»، استعاد أنسي الشاعر الذي في داخله على شكل ناثر مسترخٍ في جملته النثرية أيضاً. وكان لافتاً أنه خلط كل ذلك بالسياسة والثقافة والتعليق اللمّاح على المجريات والأحداث اليومية. واللافت أكثر أن انتظامه في الكتابة الأسبوعية لم ينلْ من فوران جملته ولمعان فكرته وفرادة كلمته الحرّة، ولم ينل ذلك، أولاً وأخيراً، من قدرته على جعل كل ذلك طازجاً ومُعدياً وجارحاً.
أنسي الحاج هو ابن «الجملة اللبنانية» في النهاية. نستخدم هذا التوصيف هنا لمدح تلك الخفة و«الشّرقطة» اللتين كانتا تُحركان شعره ونثره وحتى أحاديثه الشفوية. كان أنسي موهوباً كبيراً داخل هذه الجملة، بل كان أحد صانعيها ومطوِّريها الكبار. والأغلب أن جزءاً كبيراً من حيوية تجربته كلها عائدٌ إلى حركية هذه الجملة ورشاقتها وتجدّدها. جملةٌ يمكن بسهولة استدعاء اقتباساتٍ كثيرة من نصوص أنسي نفسها للدلالة على تفوّقه فيها. هناك، في ظلال تلك الجملة، كان في إمكانه أن يكتب في ديوانه «الوليمة»:«في ظلام النهاية جلستُ أكتب البداية/ في دم الأرض/ غمستُ ريشة السماء/ وأقول للموت الداخل:/ أدخلْ! لن تجد أحداً هنا».