لم تتغيّر السياسة الفرنسية تجاه ليبيا ما بين الجماهيرية والدولة الحديثة، إلاّ في حدود مصالحها واستثماراتها التي حافظت عليها تحت شعارين متناقضين. فبعدما كانت تعقد صفقات الأسلحة مع نظام العقيد الراحل معمر القذافي المعروف بشموليته واستبداده، انتقلت مباشرة إلى دعم ثورة شعبية ضده، وكانت أول من يعترف بمجلس هذه الثورة الوطني ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الليبي.
فرنسا التي وصلت العلاقة بينها وبين السلطة الليبية السابقة إلى مرحلة تمويل نظام القذافي حملة الرئيس السابق نيكولا ساركوزي الرئاسية في 2007، هي نفسها التي كانت في مقدمة الدول التي تدخلت عسكرياً ولوجستياً لدعم الثورة ضد القذافي قبل دخول حلف الأطلسي إلى الهضبة الأفريقية. وهي نفسها من يعمل اليوم على زيادة الاستثمارات في هذا البلد العائم على الذهب الأسود والواقع في منطقة جيواستراتيجية حساسة بين الشرق والغرب.
لقد أدّت فرنسا دوراً كبيراً في إسقاط نظام العقيد القذافي، وذلك بعد سنوات قليلة من دور مناقض أدّته لتحسين صورة العقيد أوروبياً وتسويقه للغرب. فقد تبنت دور الوسيط في حل قضية الممرضات الأوكرانيات المعتقلات في قضية الإيدز الشهيرة، الذي حُقِن به أكثر من 350 طفلاً في مستشفى مدينة بنغازي أواخر التسعينيات. وأثبتت إدارة الرئيس ساركوزي نجاحها في استرجاع الممرضات لقاء صفقات أسلحة قُدّرت بملايين اليوروات (اليورو يعادل 1.31 دولار تقريباً).
أما إدارة الرئيس ساركوزي التي اتهمها رئيس الاستخبارات الليبي السابق عبدالله السنوسي، بتلقي دعم للحملات الإنتخابية من القذافي أثناء ترشّحه للرئاسة قبل ست سنوات، فقد أكد رجل الأعمال الفرنسي اللبناني زياد تقي الدين، في 19 كانون الأول أمام قاضي التحقيق رينو فان رويمبيكي، أنه يملك أدلة تثبت تمويل ليبيا لحملة الرئيس الفرنسي اليميني السابق في 2007، مؤكداً أن «قيمة هذه المساعدة تتجاوز 50 مليون يورو (نحو 66 مليون دولار)».
والمفارقة أن صيف عام 2007 شهد توقيع اتفاقية بين طرابلس وباريس تقضي بشراء صواريخ «ميلان» المضادّة للدبابات بقيمة 168 مليون يورو، أو ما يعادل 220 مليون دولار، في صفقة هي الأولى من نوعها منذ انتهاء الحظر الأوروبي على طرابلس في المجال العسكري. وكانت هذه الاتفاقية الأولى من نوعها مع دولة أوروبية منذ انتهاء الحظر على ليبيا في عام 2004 في ما يتعلق بمبيعات الأسلحة.
ولم يتوقف الدور الفرنسي في دعم ليبيا ــ القذافي عند هذا الحد، بل كشف مسؤول ليبي آخر، عن أن ليبيا وقّعت عقداً مع شركة متخصصة في نظام اتّصالات «تيترا» الإذاعي من خلال صفقة منفصلة قيمتها 128 مليون يورو، أي ما يعادل 167 مليون دولار.
وكان سيف الإسلام، نجل الزعيم الليبي الراحل، قد أخبر صحيفة «اللوموند» في تعليقات سابقة، أن إطلاق طرابلس سراح ستة من العاملين في مجال الطب البلغاريين، بعد قتلهم مئات الأطفال الليبيين، مهّد الطريق لتوقيع اتفاقات كبرى في مجال الأسلحة مع فرنسا.
أما في عهد الثورة، فقد كانت باريس سبّاقة لدعم الحراك الجديد، وكانت من أشد الدول المُتحمّسة لتسليح الثوار، وأسهمت عملياً في ذلك. ولعل الحضور اللافت للفيلسوف الفرنسي برنارد هنري ليفي منذ الأيام الأولى للانتفاضة وسط المقاتلين واطّلاعه على خططهم وتحركاتهم، كان له دلالة واضحة على مدى المسافة التي قطعتها فرنسا ــ ساركوزي بين الجماهيرية والثورة. لقد كان الفيلسوف الفرنسي، المقرب من ساركوزي، نقطة الوصل بين المجلس الوطني الانتقالي المؤقت الذي شُكّل عقب سقوط بنغازي، وبين الإليزيه. وتقول الرواية إن ليفي نقل للرئيس تفاصيل الثورة وما يدور في الشارع الليبي، الأمر الذي حفز الإدارة الفرنسية على دعم الثوار سياسياً وعسكرياً. وجاء اعتراف فرنسا بالمجلس الانتقالي ممثلاً وحيداً للشعب الليبي خطوة عُدَّت أول طعنة في ظهر العقيد. هذه الخطوة التي تلاها فتح أبواب الاعتراف بالمجلس دولياً، تلاها أيضاً قرار تبني حظر جوي على ليبيا أمام مجلس الأمن.
لكن إسراع القوات الفرنسية في قصف قوات القذافي المتجهة صباح 19 آذار إلى مدينة بنغازي كان أهم ما قدمته فرنسا للثورة الليبية. ولم يتوقف الدعم الفرنسي على هذا الحد، بل زار باريس رئيس الأركان الراحل عبد الفتاح يونس واتفق مع المسؤولين هناك على تزويد الثوار بطائرات آباتشي ساعدت في حماية المقاتلين في البريقة. ومن هنا لم يتوقف الدور الفرنسي في ليبيا، وآخر الغيث استثمارات ومشاريع تؤكد طموحات فرنسا في شمال أفريقيا، ولا سيما أن الدولة الاستعمارية السابقة التي كان لها باع طويل في تطويع القارة السمراء لنفوذها لا تزال تتدخل في منطقة الساحل وشمال أفريقيا حيث تدور معارك طاحنة اليوم في شمال مالي مع إسلاميين متشددين.
(الأخبار)