هكذا إذاً، اختار وزير الداخليّة الفرنسي مانويل فالس أن يفاجئنا! فضّل عدم التوقيع على قرار إبعاد جورج إبراهيم عبدالله، معرقلاً تنفيذ حكم إطلاق سراحه وتسفيره إلى بلده، ومفضّلاً أن يطيل لأيّام، أو أسابيع، أو أشهر، المسلسل الكابوسي الذي يعيشه المناضل اللبناني منذ أواخر التسعينيات في السجون الفرنسيّة، تحت عنوان: «كافكا في بلاد الفرنسيس». هل هو قرار احترازي مثلاً، أو قرار انتقامي، أو مجرّد موقف رمزي…؟ هل هو مزاج وزير الداخليّة، أم قرار الدولة الفرنسيّة؟ لعلّه علامة ضعف أمام رغبات أميركيّة، أو عجز الاشتراكيين عن طيّ صفحة ذلك الماضي القريب ـــ البعيد، بصفاء وشجاعة؟ ربّما كان من غير المجدي أن نسأل أنفسنا عن أسباب هذا الموقف وخلفيّاته. لكنّ ما جرى يعيدنا مجدّداً إلى إشكاليّة جارحة لكثيرين منّا (خصوصاً أولئك الذي اقترعوا لفرنسوا هولاند في الانتخابات الأخيرة. فالناخبون العرب قوّة مهمّة في صناديق الاقتراع الفرنسيّة). هذه الإشكاليّة هي موقف الحزب الاشتراكي الفرنسي (وبشكل أشمل فرنسا بكل تيّاراتها السياسيّة بعدما دفنت الإرث الديغولي)، من العرب وقضيّتهم المركزيّة: فلسطين.
والوزير مانويل فالس لمن لا يعرفه (راجع مقالة آلان غريش المعرّبة في «الأخبار»، ٢١/ ٥/ ٢٠١٢)، يتميّز بتمجيده «النظام» الذي «ليس يسارياً ولا يمينياً» في نظره، لذلك ربّما يفضّل إبقاء جورج عبدالله في السجن. وهو معروف بخياراته السياسيّة التي تضعه على يمين الحزب الاشتراكي المنزلق أساساً إلى ميوعة إصلاحيّة في إدارة الأزمة الاقتصاديّة، مكتفياً من نهج «اليسار» التغييري ببعض المبادرات الأخلاقيّة (مثل مشروع قانون «الزواج للجميع» الذي تظاهر ضدّه الأحد مئات آلاف المحافظين في باريس)، فيما يتفرّج عاجزاً على صعود البطالة وتراجع العدالة الاجتماعيّة، ويتخبّط في مواجهة الأزمة الاقتصاديّة الحادة التي تواجهها فرنسا. ولم يخف الوزير فالس يوماً مشاعر التعاطف مع إسرائيل، مثل معظم أقرانه في الحزب الاشتراكي، بمعزل عن المناورات اللفظيّة وخطب المناسبات، والقول بحل الدولتين وما إلى ذلك. بل إن الرئيس الفرنسي الحالي فرنسوا هولاند الذي يريد من الفلسطينيين أن يعودوا إلى المفاوضات من دون قيد أو شرط (أي على خلفيّة استمرار سياسة إسرائيل العدوانيّة والاستيطانيّة)، تسجّل سياسته الفلسطينيّة تراجعاً عن سلفه ساركوزي (اقرأ مقالة أخرى لآلان غريش، معرّبة في «الأخبار»، ٧/ ١١/ ٢٠١٢). وكان الأخير اكتشف في آخر عهده الرياء لإسرائيل التي تستبعد في العمق أيّ مفاوضات حقيقيّة من أجل حل عادل وشامل في الشرق الأوسط.
واليوم نقف مشدوهين أمام السياسة الخارجيّة لفرنسا التي تعود على أعقابها إلى المستعمرات القديمة. هل هو الحنين إلى زمن الاستعمار؟
بإرساله طائرات الميراج إلى مالي لتضرب مقاتلي «حركة أنصار الدين» في شمال البلاد ووسطها، وتُوقف زحفهم إلى باماكو، مخلّفة عشرات الضحايا من المدنيين، إنما يحظى هولاند بإجماع الطبقة السياسيّة، مؤجّلاً بعض الوقت مواجهة الأزمة الداخليّة وضغط الشارع، وهجمات المعارضة اليمينيّة. لقد أعاد فرنسا إلى دور الدركي في أفريقيا. هذا الدور الذي وعد بالتخلّص منه، ليسجّل انتصاراً سهلاً على المقاتلين الراديكاليين، من دون نيّة معلنة في إعادة السيطرة على الشمال، ويحمي الرئيس الانتقالي ديونكوندا تراووري، ومعه المصالح الاستراتيجيّة الفرنسيّة في أفريقيا الغربيّة من يورانيوم النيجر إلى آلاف الفرنسيين الذين يعملون في المنطقة. لم توضح فرنسا نيّاتها اللاحقة في هذه البقعة من العالم، ولم تُبد انشغالاً بمساعدة أحد أفقر شعوب العالم، شعب رازح تحت نير البنك الدولي يعاني من الحرمان والتخلّف وشبح «القاعدة». بل إن فرنسا التي لعبت دوراً حيويّاً في إسقاط نظام القذّافي (من أجل الديموقراطيّة؟)، هدفها هنا حماية نظام ضعيف، ولعب دور أساسي في المعادلة الجديدة للساحل الأفريقي، بعد انهيار «ملك ملوك أفريقيا» ليرتفع الغطاء عن علبة باندورا، وتنفلت من عقالها الإتنيات والقبائل والجماعات المتطرّفة وعصابات المرتزقة والمهرّبين.
ماذا نقول عن دور فرنسا في الأزمة السوريّة؟ الرئيس الفرنسي ووزير خارجيّته لوران فابيوس ملكيّان أكثر من الإدارة الأميركيّة. سقى الله زمناً كانت فرنسا تقف ضد الخيارات الأطلسيّة، وتدافع عن العرب، أو يستقيل وزير دفاعها (جان _ بيار شوفانمان، ١٩٩١)، رافضاً المشاركة في الحرب على العراق. اليوم الولايات المتحدة تبحث عن حلول تفاوضيّة، فيما فرنسوا هولاند يحورب على أبواب دمشق. يقصف الإسلاميين في مالي، لكنّه يشجّع تقدّمهم في سوريا، واعداً بتسليح المعارضة ما ان تتفق على تأليف حكومتها، وما يستتبع ذلك من «ديموقراطيّة وعدالة وتعدديّة». قد يحتاج خليفة جان جوريز قريباً إلى مساعدة عقاب صقر. يا لبؤس الاشتراكيين الفرنسيين في هذا الخريف المديد.