رغم ما يشبه العداء غير المبرّر، الذي تصرف به سعد الحريري حيال ميشال عون، في محادثتهما الهاتفية الأخيرة، ورغم دفع الأول للأمور إلى حدود القطيعة الفعلية، ورغم كل التقنيعات اللفظية، لا بل ربما بسبب ذلك، يبدو الحوار مع الرجل ضرورياً، بصراحة كاملة، ولو من بعيد.
يرفع الحريري في وجه التوافق المسيحي الساحق على تأييد عون مرشحاً لرئاسة الجمهورية، شعارين: الاحتكام إلى الديمقراطية البرلمانية أولاً. وأنه هو من بادر إلى تسوية ميثاقية ثانياً. لكن ما صحة هاتين المقولتين؟
أولاً، في مسألة الاحتكام إلى العدد والأصوات والبوانتاجات. يدرك الجميع أن لبنان يعيش منذ 20 حزيران 2013 حالة استثنائية، عنوانها التمديد للمجلس النيابي المنتخب سنة 2009. ليست المسألة ههنا إشكالة دستورية أو مماحكة قانونية. بل هي واقع شعبي شرعي. حقيقته أن النواب الحاليين خاضعون لمنطق الحق والوكالة وأصولها. ومفادها أن هؤلاء لم يعطوا أصلاً تفويضاً لانتخاب رئيس جديد للجمهورية. بعد هذا التاريخ، صارت الدولة كلها في لبنان خاضعة لمبدأ التسوية. وليس أي تسوية. بل التسوية الميثاقية التي جعلها الدستور نفسه أعلى من الدستور، نصاً في مقدمته وعرفاً منذ قيام لبنان، وواقعاً تاريخياً أدى في كل مرة جرّب البعض تخطي ذلك الميثاق، إلى كارثة تصيب كل لبنان وكل اللبنانيين. ليس التمديد الأول لمجلس النواب في تاريخنا. لكن السوابق نفسها تشهد أنه كل مرة سقطنا في التمديد، كان الحل في التسوية الميثاقية، تحت طائلة الانفجار. وهو ما كان يدركه الحريري نفسه قبل سواه. وهو ما جعله يدعو في مبادرته الشهيرة في آخر كانون الثاني 2013، إلى إجراء الانتخابات النيابية. وهو ما سقط بعد أشهر قليلة على مبادرة الحريري والتزامه، واضطر هو أو بادر إلى المساهمة فيه.
المهم، أنه بعد ذلك الحدث المفصلي الضارب لأساس الديمقراطية والناسف لمبدأ التمثيل الشعبي، صرنا محكومين بالتسوية لا غير. وهو ما فهمه الحريري أيضاً قبل سواه. فكان الحوار مع عون، مدخلاً للبحث عن تلك التسوية. وكانت الحكومة الحالية خطوة أولى لتلمّس طبيعة التسوية المنشودة. وهو ما تعثر لاحقاً، بمعزل عن الأسباب والسياقات.
لذلك، وبدافع الحرص الميثاقي نفسه، كان موقف عون المعلن بعد أيام قليلة على الشغور الرئاسي، دعوة عبر مؤتمر صحافي إلى اعتماد أي وسيلة ممكنة للعودة إلى الإرادة الشعبية. وصولاً حتى القبول بالانتخابات النيابية فوراً. أو التعديل الدستوري المحدود تحت سقف الطائف. أو حتى استطلاع الشعب أو استفتائه أو أي صيغة تسمح لمأزقنا الدستوري بأن يعالج بحسب مقتضى الميثاق وفلسفة الدستور. حتى سقط كل ذلك. من دون أن يعني سقوطه لحظة، الإذعان لمنطق الانقلاب على إرادة المواطن. وهو ما جعل عون طيلة عشرين شهراً من الشغور، يتمسك بموقفه: إما التسوية الميثاقية لانتخاب رئيس. وإما انتخابات نيابية يلتزم الجميع بعدها انتخاب رئيس فوراً، تماماً كما تنص المادة 73 من دستورنا وكتاب عهدنا الوطني للعيش معاً.
تبقى مقولة الحريري أنه أقدم على ما فعله بخلفية مبادرته إلى إبرام التسوية الميثاقية المنشودة. هنا تصبح المصارحة مباشرة، مبسّطة، لا بل على بساط أحمدي، بلا تقديمات ولا توريات. مِن مَن يريد الحريري تسويته تلك؟
إذا كان يريدها مع المسيحيين، فها هي أكثريتهم في مكان آخر. في مكان لا يحتاج إلى بحث ولا فحص ولا تدقيق. لا بل إن افتراض حسن النية لدى الحريري، كان يقضي بأن يدرك منذ 2 حزيران الماضي، تاريخ زيارة سمير جعجع لميشال عون، أن التوافق المسيحي قد بات على وشك الإنجاز. وهو ما يقتضي من الحريري ملاقاته، لا القوطبة عليه بعد أسابيع أو أشهر.
وإذا كان يقصد من مبادرته تلك إنجاز تسوية ميثاقية مع الشيعة، فالأمر يستحق كل تشجيع وحث وثناء. فلبنان اليوم، وسط نار الفتنة المذهبية التي تلف محيطه ومنطقته، مهدد بالانفجار لا بل بالاندثار من دون تلك التسوية. والحريري هو الأقدر على القيام بها. من موقعه زعيماً مكرساً لأكثرية سنية، وإن كانت لا تلامس الأكثرية المسيحية التي باتت متوافقة تنتظر انضمامه الميثاقي المرجو. لكن هنا أيضاً، يبدو السؤال صارخاً: أي تسوية في اتجاه الفريق الشيعي يقدم عليها الحريري، خصوصاً في ظل أمرين متباينين: أولاً، أن الفريق الشيعي الذي يفترض أن ينشد التسوية، مصطف إلى جانب الأكثرية المسيحية. وثانياً أن كل خطابه، حتى ذكرى 14 شباط الأخيرة، لا يزال يناوئ ذلك الفريق في خياراته الوطنية؟ إلا، إلا إذا كان البعض يخدعه بتخرصات من نوع أن حزب الله يتحدث بلغتين، أو أن الرهان على الوقت والخارج، قد يبدّل الثوابت، أو يقضي به الله ما ليس بيد أحد.
يبقى احتمال ثالث. أن يكون الحريري قد بادر إلى تسوية مع رئيس تيار المردة سليمان فرنجيه، بخلفية اقتناص فرصة أو قضم مكوّن أو نقله من موقع إلى آخر. وهو ما لا يرتضيه فرنجيه نفسه لنفسه. وهو الذي لا يقلب ولا ينقلب. وهو ما لا يعقل أن يقدم عليه الحريري، إلا من باب إضاعة الوقت والفرص وسبل إنقاذ الوطن.
بلا عداء ولا استفزاز ولا مماحكة، هذه الحقائق برسم المعنيين. فتاريخنا يظهر أنه كل ست سنوات يمكن أن نختلس رئيساً. لكن لبنان ينتظر من الجميع، ومن الحريري أولاً، أن يكرس جمهورية ودولة ووطناً، وسط مخاطر الزوال أو الانحلال.