مكاوي سعيد*
عيون كثيرة رأت بحضورها تلك الأيام التي أحيتنا جميعاً من جديد. عيون كثيرة بكت خوفاً على حلم ظلت تتهدده كل يوم «خسة» أناس استكثروا على المصريين حلم الحرية والعدالة والكرامة، ودمعت من الضحك والامتلاء بالفرح والسعادة. عيون حملقت وملؤها الاندهاش، مما كنا نختزنه بين جنباتنا من تحد وإصرار وصبر وإبداع وسخرية. وكنت واحداً ممن رأوا هذه اللحظة وعاينوا أحداثها ودوّنوا وقائعها. حمل قلبي وعقلي مشاهدات كثيرة، وأحداث بعضها كان منطقياً، نابعاً من جهد جيل ثائر غالبه من الشباب الرائع الذي حسم خيار الحرية، وبعضهم مثلي ممن انتظروا طويلاً، حتى قادنا الشباب وحرروا أصواتنا المكتومة.

وبعض المشاهدات ظل عقلي في حيرة منها، إذ بدت متجاوزة للمنطق، وتحوطها الغرابة، وكانت تحمل في كل لحظة روح البشارة بغد مختلف. كان لا بد لي من أن أضع هذه المشاهدات في نص. ولحسن الحظ كنت أكتب مشاهداتي في صورة ملخصة في كراس بحجم الكف حملته في جيبي طوال أيام الثورة. وعندما عدت لمطالعته، وجدت المرائي تتداعى والمشاهد تتدفق، وتأتلف مع مشاهد أخرى. فقلت: ولمَ لا! ليكن كتابي مجرد كراس، أضعه بين يدي القارئ بحاله الذي كانت عليه. وقد آثرت النأي عن توثيق أحداث الثورة وسرد وقائع الأيام العظيمة، وحسناً أنه قد سبقني لذلك كثيرون، وصارت بين أيدينا مئات الكتب والسير التي تسجل تلك الأحداث وتتلوها من عيون أصحابها كتاباً وثواراً. لقد عنيت في كراساتي بالمشاهدة، مشاهدة تفاصيل الصور. ميدان التحرير هو جسر عبوري اليومي بين بيتي وعملي. مقاهي وسط البلد ترسم خريطة حياتي، وعلى كراسيها، جلست تلك الشخصيات التي ألهمتني ما أكتب، وبين مبانيها وفي شوارعها تحركت أفكاري وأحلامي ومارست نزقي وشروري الصغيرة. عبر عقود لا بأس بها صرت أعرف الميدان حجراً حجراً وشرفة شرفة، وبت أميّز وجوه من فيه من سكان وأصحاب المحال وعمال تنظيف وباعة جرائد وأفراد درك وحتى العابرين لأعمالهم. لم استعجل إخراج هذه الكراسات لإيماني بأنّ الثورة ليست حدثاً مضى، ما زلنا في بداياتها رغم مرور عامين. ويقيني أنها مستمرة تسير صوب أهدافها رغم ما يعتري مسيرتها من انحرافات وانكسارات. تلك الملايين التي رأيتها محتشدة تهتف للحرية، لا أظنها تخون ثورتها وتتركها ليد العابثين والمستغلين والمخرفين. في نهجي لوضع هذه الكراسات، تابعت ما كنت بدأته في كتابي «مقتنيات وسط البلد» الذي وضع البشر في بؤرة الحكاية ولم ينس الأماكن التي لا تشكل فقط خلفية للأحداث، لكنها تتشكل كجزء منها.
حاولت في هذا النص أن أكتب عن البشر أكثر مما أكتب عن الوقائع، عن الإنسان الذي هو روح الثورة، وهدفها. كتابة لم أرد لها أن تصنع وهم الاستثناء، ولا أن تغرق في قعر الإحباط. كتابة أردتها أن تتجاوز السياسي بسخونته واهتزازاته العنيفة، لتستقر عند الإنساني بعمقه ووضوحه. حاولت في هذا النص أن أضم إلى جانب البشر ومصائرهم والأماكن وتمثلاتها تلك الروح التي سادت بين الناس في الميدان، وآثرت ألا أفلت التفاصيل الصغيرة، وحتى الحيوانات ضممتها إلى سفينة الكراسات لأوضح كيف أنّ «التحرير» في أيامه الثائرة كان عالماً حقيقياً، وملخصاً لقصة الإنسان في ذروتها: قصة الثورة. هذه الكراسات على صغرها تحوي ما أردت قوله عن الثورة. صحيح أنّ ذاكرتي فاضت بمشاهدات وحكايات وأحداث كثيرة، لكن ما خترته منها وضمنته في الكراسات، يرسم الصورة كما رأيتها. وأترك لذاكرتي ما بها عله ينضج يوماً ويتسرب إلى أعمالي الأدبية القادمة. ولا أظن أنّ شيئاً له أن يلهم الأدباء والفنانين أكثر من ثورة... تجلي فيها الإنسان، بعظمته وحتى بخسته. لحظة كشف استثنائية تكثفت فيها الإجابات عن كل الأسئلة، والشاطر فينا من يقتنص حكمة التحرير.
* روائي مصري صدر له كتاب عن الثورة قيد النشر بعنوان «كراس التحرير».

منى برنس *

لأدع الدولة جانباً. لقد تعلّم الشعب الكثير منذ ٢٥/١/ ٢٠١١ وأصبح أكثر إدراكاً واهتماماً بحقوقه وبكيفية المطالبة بها. وما نراه من حلقات في «ميدان التحرير» يتناقش فيها المصريون في شؤونهم العامة وما يحدث في البلد، والحوارات متجاوزة الطبقية والديانة والنوع التي أبدأها في المواصلات العامة مع الناس، والتي تبدأ بهدوء وتتطور إلى «خناق» وتنتهي بالضحك واقتسام الحلوى والفول السوداني والسلام على بعضنا، يعدّ بالنسبة إليّ أهم الإنجازات الحقيقية للثورة الأولى ضد نظام مبارك. والثورة ضد الإخوان قادمة، فقد تجاوز المصريون صراعاتهم مع الشرطة والمجلس العسكري ووصلوا إلى سور «قصر الاتحادية»، معلنين بذلك تمرّدهم على كل أشكال السلطة التي لا تحترمهم ونقشوا ورسموا وكتبوا أقسى الشتائم للرئيس ولجماعته ومرشدها مفككين في الوقت عينه «هيبة» الرئاسة وجماعة «الاخوان المسلمين» والتيارات الاسلامية في عمومها. وكلي ثقة أنّ هذا الشعب سيبدع نموذجاً جديداً لإدارة شؤونه وتحقيق حلمه وحريته.
الثورة مستمرة يا ولاد الـ...
* قاصة وروائية مصرية، مؤلفة كتاب «اسمي ثورة»

باسم شرف*

كنت أؤمن بأنّ الحروب وحدها قادرة على تغيير العالم، وأنّ الأفكار والعقائد قد تؤثر لكن لن تغير. الآن أغير عقائد كثيرة كنت أؤمن بها. أكتب الآن ليس لأخبركم عما حدث، لكنني أكتب الآن كي أتأكد أن هذا حدث.
- قبل الثورة بيوم، كنا نسخر من فكرة أنّ الثورة تنزل بميعاد. لكننا كنا سنشارك من باب المشاركة، فكانت أغلب مشاركاتي صدفة. لقد شاركت في مظاهرات واضربات عديدة، وكان أغلبها يفشل فشلاً ذريعاً، ونخرج منها بضحايا الاعتقال والتعذيب. مثلاً، كنت ذاهباً إلى عملي في ميدان التحرير، ركبت المترو. وحين نزلت إلى «محطة السادات»، فوجئت بأنّ عمّال المترو يقومون بإضراب للمطالبة بحقوقهم، فوقفت معهم من باب المشاركة. وكنت أسير يوماً في «شارع القصر العيني»، وجدت عمّالاً يقفون بلافتات للمطالبة بحقوقهم أمام مجلس الشعب، فوقفت من باب المشاركة أيضاً. وبعد الانتهاء من الوقفات، أذهب إلى منزلي سعيداً بأنّ مصر أصبح فيها إضرابات. هل سيأتي اليوم الذي أجد فيه رئيساً جديداً؟ لم أتصوّر يوماً أني أعيش تحت ظل رئيس مخلوع. دائماً ما كنت اقرأها في كتب التاريخ ويأتيني إحساس بأن الله خص هذه الشعوب بأنبياء أو رسل سريين للتخلص من القادة الديكتاتوريين. لم تكن المشكلة في الفساد بقدر ما هي التعود على الفساد. لقد تعودنا على الفساد ليكون شريعة نتداولها بيننا، ونخلص إلى هذا الفساد ونتباهى به. إنّه كان يريدنا غير مؤهلين للحياة. سلبوا منّا الحياة لينعموا هم بألوانها. لقد علمنا النظام السابق الانتقام. لا نسامح. لا نعترف بالخطأ. علّمنا الخوف من المستقبل. علّمنا الجهل. جعلنا أناساً مشوشين. الفساد لم يكن مادياً فقط أو اجتماعيا فقط، لكنه أيضاً فساد نفسي جعل البعض يتعاطف مع جلاده.
وعلى الرغم من كل هذه الجروح التي أصابنا بها النظام، كنت على يقين بأننا سنذهب إلى يوم الثورة المحددة بميعاد وسنرجع مثلما ذهبنا. وكنت أتصوّر أنّه سيكون يوم واحد فقط. لكن في يوم 25 ك2 (يناير)، أيقنت أنّ اليوم لن يكون مظاهرة اليوم الواحد، وبدأ شعور يتسرب إليّ بأننا يجب أن نكمل. إنها ثورة، وكنت أسير في الميدان أرى الوجوه متفائلة. وبدأت أنشد معهم «الشعب يريد إسقاط النظام». إنّها أنشودة الأمل والحرية. وفي اليوم الرابع (جمعة الغضب) عرفت أنّ الحرية قريبة جداً.
25 يناير 2012
بدأت معركتنا النهائية مع الحكم العسكري (على مستوي الشكل فقط أي أنّ النظام يخلع «البيريه» العسكري المموه كي تنبت ذقنه لتملأ الدنيا وحلاً). وقبل أن يسقط هذا النظام، طالبنا بالمطالب نفسها التي كنا ننادي بها من أيام «الهكسوس» ملخّصها «نريد حياة كريمة».
25 يناير 2013
أيام المخلوع السابق، كنّا نريد أن نعيش حياة كريمة. أما الآن بعد خطف الاخوان السلطة، نتمنى أن نعيش فقط. هكذا يتضح الحال السيئ الذي نعيشه بعدما جعلوا الثورة في مجموعة صناديق. والمعلوم تاريخياً أنّ الصناديق المبكرة هي قبور الثوار. وأرى أن الحل الوحيد في خلع الاخوان هو «العصيان المدني»، فهو كلمة السر لفك اللغز ونهاية الفاشية الدينية إلى الأبد. وستوقف البلاد وستتعطل تروس الحياة الى أن يستسلم الاخوان ويعطون البلد لأصحابها.
* كاتب مسرحي ومؤلف «ستاند أب كوميدي» عن الثورة

جيهان عمر *

صدفة التقيت بأدهم، كان يحمل لافتة «ارحل»، وترتسم ملامح الجدية على وجهه الصغير. كنت اتعجب في البداية من تلك الثقة على وجوه الأطفال. صرت أجوب «الميدان» بحثاً عنهم. أفتش عن عيونهم اللامعة، ويجدونني أحياناً بلا جهد منّي، يبتسمون للكاميرا من دون أن نتبادل الحوار. لم يعد يهمني سوى رصد الاطفال. كانوا بالنسبة إليّ صورة للأمل والحب والغد القريب. كلما رأيت طفلاً، كأنني وجدت كنزاً صغيراً. كنت أجمع كنوزي اليومية من بورتريهات الأطفال ثم أعود راضية. وحين كنت أتبادل الحوار مع أحدهم أحياناً، كنت أجد إجابات منطقية مثل محلل سياسي، وأتساءل أنني كنت ما زلت طفلة أيضاً في عصر مبارك، لكنّني لم أمتلك ذرة من هذا الوعي السياسي. رأيت جمال الميدان من خلالهم. كانت أحلامهم أزهى من ملابسهم، وقلوبهم أنقى وأخف من منظّري الثورة الذين يملأون الدنيا ضجيجاً الآن. كنت أعلم أنّ الثورة لهم حين يقطفون ثمارها بعد أعوام طويلة من محاولات الكبار في إزالة العطن. كنت أرى في كل بورتريه ملامح المستقبل القريب. كنت أتجوّل بسعادة بعدما صار «الميدان» مثل الجنة الملوّنة. كل شيء كان يزداد جمالاً حتى رأيت سلمى فضحكت من رقتها البالغة. كانت في العاشرة من عمرها وتضع تاجاً من الورق المقوى على رأسها بحروف دقيقة. كتبت «أمشي بقى وهات الانترنت عشان أنا زهقت». كان اليوم الثالث لانقطاع خدمة الانترنت، فنزلت لتبث شكواها هنا. كنت أتساءل مع كل لقطة: متى نضج هؤلاء الأطفال؟ ومنذ متى وهم يحلمون ويفكرون حتى يجيء اليوم الذي يقررون فيه النزول الى الميدان؟ ثم أجابني أدهم حين سألني «حضرتك في تلفزبون ايه؟». قلت: «هذه اللقطات ليست للتلفزيون». فبادرني قائلاً «هشوف صورتي فين يعني»، فانتبهت إلى هذا السؤال المنطقي. أدهم يعلم تماماً أنّ لكل فعل نتيجة منطقية. حتمية وضرورية. أدهم ينتظر صورته المنشورة ما دمت قد أخذت له هذه اللقطة. أدهم ينتظر رحيل مبارك لأنّه يحمل لافتة «ارحل». إنّه لا يتأرجح مثلي بين اليأس والأمل. إنّه يقف في الميدان كي يسقط النظام. إذن، لا بد من أن يسقط النظام، ثم سقط النظام وتبدّلت صورة الميدان بعد التنحي. صار الاطفال هم الذين يأتون إلى الكاميرا يستعرضون وجوههم المزينة بعلم مصر كأنهم في يوم عيد ثم اختفت البهجة تدريجاً حين تبدل المشهد السياسي وتأرجحنا مرة أخرى بين اليأس والأمل، حتى صرت أتجنب المرور من هناك.
ربما أرى أثر دماء على الأرض تنادي بالقصاص المؤجل، أو أقابل طفلاً وعدته يوماً أنّ بورتريه وجهه الصغير سيغيّر عالمنا الى الأفضل.أتذكر الآن ملف الصور الذي وضعته على صفحتي عبر الفايسبوك بعد أسبوع من الثورة لكي يرى أصدقائي في البلاد الأخرى شجاعة الاطفال هنا. كان بعنوان «صغار على الحبّ»، فرد علي صديقي الشاعر: «لا أحد صغير على حب مصر. سيكون الغد لهم أبهى وأجمل». أتذكر هذه الكلمات الآن، وأتمنى أن يجيء هذا الغد، وأن يجيء هذا اليوم الذي أنشر فيه بورتريه أدهم كي أثبت له أنّ لكل فعل نتيجة حتمية وضرورية ولو بعد حين.
* شاعرة ومصورة فوتوغرافية صدرت أعمالها عن الثورة ضمن عدد خاص من مجلة «الكتابة الأخرى»



سالم الشهباني*

الثورات كاشفة، تقوم بإزاحة المجاز لتتسع بؤرة الضوء داخل القصائد، وينحصر الغموض والظل، ويغيب الرمز لتتجلى فنيات المباشرة داخل نصوص وقصائد الشعراء التي تأتي قبل الثورات كمحرّض، وأثناء الثورات كراصد، وبعد الثورات كمستشرف الثورات. أيضاً تجعل الشعوب تخرج أجمل ما لديها من فن. تجربتي مع الثورة ظهرت مع ديوان «الدليل» والأغنيات التي تغنى بها بعض المغنين مثل «واحنا بنغيرها» (ألحان وغناء الفنان أحمد عز الأسطول)، ثم «قال الشهيد» (ألحان الفنان محمد عنتر وغناء الفنان حسين عزمي)، وبعض الفرق مثل «بساطة» وأغنية «أنا من مصر» (ألحان الفنان نبيل لحود وغناء ماريز لحود) وغيرها من الفرق. جاءت هذه الأغاني لتعبّر عن الثورة وعن الشعور الفائض الثائر لدى كل أفراد هذا الشعب، وكيف كانت الثورة طوق النجاة والمخلص بعد سنين الظلم والفقر والقهر، قبل اندلاع الثورة بأيام قليلة، وأثناء السنة الأولى للثورة. وفي أثناء هذه الفترة، كنت أريد أن أصرخ لكن بالشعر. وهذا كان محكاً صعباً، كيف أصرخ بالشعر؟ وكيف أقدم في ديوان «الدليل» شعراً وليس صراخاً؟ لذلك، قررت أن أحتمي بشيء فني يجعل ما أقدمه في الديوان شعراً وليس صراخاً، فالتجأت إلى الموروث الشعبي والإسلامي والفرعوني، وبدأت بالتعبير عن الثورة ومحاكاتها من خلال الموروث أي الغناء للثورة وليس الصراخ لها أو عليها. وعندما انتهيت من الكتابة، كان الاختيار الأصعب: كيف أختار اسماً فنياً يعبّر عن حالة الغناء للثورة وفي الوقت نفسه لا يكون اسماً يغازل أو يتاجر بالثورة؟ لذلك اخترت اسم «الدليل». ولا شك في أنّ ما غاب عن ثورتنا هو هذا الدليل الذي جعلنا نتخبّط ونسير بلا وجهة صحيحة. وكيف يكون هناك دليل يثبت أنّ ما عشناه كانت ثورة قام بها شعب مصر بعد سنين من الفقر والقهر وأنها كانت حقيقة وليست وهماً؟ والدليل الذي لن يمحى هو دماء الشهداء. الثورة قادمة وبقوة وهي مرهونة بإعادة ترتيب الصف مرة أخرى وأن ننحّي مصالحنا الشخصية وأن يظل النظام الحالي يتعامل بنفس آليات النظام البائد وبنفس الغباء... هذا سوف يعجّل بالثورة.
* شاعر ومؤلف أغنيات أصدر ديوان «الدليل» وكتب أغنيات عن الثورة


ابراهيم عبد الفتاح*

ما وصلنا إليه الآن لم يخن توقعاتي، ولا فراسة في ذلك. المتأمل للواقع المصري خلال الحقبة المباركية، يدرك من دون جهد أنّ الأرض لم تكن ممهدة ليتماهى الفعل الثوري مع السياسي في ظل هيمنة الحزب الواحد واستسلام القوى المدنية وانسحاقها بل تواطؤها. الأحزاب مكلفة أو واهنة، والكيانات الغاضبة عاجزة لا تملك أدنى قوة للحشد، خصوصاً في ظل القمع، والنخبة غارقة في التنظير بل تكريس التفكيك، وبعض أصوات متناثرة على صعيد الوطن يخفت صوتها قبل أن يعلو. فقد تم استئناس المعارضة واستعمالها في تزيين مناخ الديموقراطية الزائف وشراء البعض بالمال أو بالمناصب حتى الفن لم يسلم، فكان للنظام أرجوزاته الذين يروجون له حتى لو تجرأوا على انتقاد الرئيس. على الجانب الآخر، كانت قوى الإسلام السياسي تعدل من خطابها بعد مراجعات شهدناها، وأخرى لم نسمع بها. وسرعان ما فطنت هذه القوى إلى قوة الاقتصاد وتأثيره في القرار السياسي، خصوصاً في ظل الفقر والجهل الذي يضرب المجتمع ومَن هم تحت خط الفقر. كما أدركت قوة الاطراف، فاشتغلت على الصعيد، وما أدراك ما الصعيد الذي أهملته الحكومة، فصار مرتعاً للتطرف. تصوّري أننا ندين بالفضل لعام 2007 بضرورة وأهمية العمل النقابي واختبار إرادة الاحتجاجات والاعتصامات التي أدت إلى نتائج إيجابية، فكانت النواة التي أشعلت فتيل الغضب في أركان الوطن بالتوازي مع السعار الذي أصاب أجهزة الداخلية، فلم ترحم أديباً أو صحافياً من الاعتقال والسحل بل الإخفاء في أحايين كثيرة. قبل سنوات اجتاحت البلاد ظاهرة الفرق المستقلة في مختلف الفنون، ومثلت مع الوقت حائط دفاع عن الأغنية والفيلم والمسرحية، واستطاعت تبديل الخطاب الفني السائد ولفت الأنظار لها، لا سيما أنّ بعضها عمل على إعادة الخطاب التحريضي عبر استلهام سيد درويش ونموذج نجم وإمام عيسى، واحتلت بعض الأماكن المهمشة والمهملة، وصار لها جمهورها، فزلزلت بعض الثوابت وكانت بمثابة انطلاقة نوعية من حيث المضمون والشكل لاهتمامها بمضامين لا تربت على المشاعر ولا تغازل الأهواء الرخيصة

على مواقع التواصل الاجتماعي التي شهدت في بدايتها اهتماماً بالمواقع الإباحية حتى استهلكته وحررت جانباً من الهوس الجنسي وأجابت عن السؤال الذي شغل الشباب من الجنسين. ومع انتشار غرف المحادثة والجدل والسجال مع مجتمعات مختلفة من العالم، اكتشف الشباب قدرته وذكاءه وحقق انتصاراته عبر حلقات النقاش، فبدأ بعقد مقارنات أكّدت له أنّ حياة أفضل تليق بعقله ونقائه، فقدم أفضل ما لديه والذي حلمنا به طوال عقود لعل أهمها كسر السلطة والتجرؤ على التابوهات وقلقلة الثوابت، فبدأوا الخروج إلى الشارع وسجّلوا بالصوت والصورة أغلب الانتهاكات ونشروها على الناس من خلال وسائطهم المتاحة من الميديا الشعبية التي ما زالت تخوض معركتها مع الميديا الإسلامية والفلولية.
سيشهد الدم الذي خنته
الدم الذي هدم الأنفاق وأخرجك إلى النور
فاستدرت من الخلف وطعنته
كان متوقعاً أن يصعد الإخوان على جثث الشهداء، فهم يملكون آلة كبيرة مكّنتهم بالمال واستثمار الفقر والجهل من اكتساب أصوات القوى المحايدة التي تمثل النصيب الأكبر من التصويت في ظل نخبة سياسية متشرذمة يتزعمها بعض الهواة مع احترامي لبعضهم، لكنهم أضاعوا كل الفرص التي أتاحتها وما زالت دماء الشهداء. لا أراهن إلا على هذا الجيل الذكي النقي الذي استطاع بإرادة غير مسبوقة كسر جدار الخوف ووأد آلة القمع وهو ما زال يمتلك القدرة على إدهاشنا، ويقيني أنّ الثورة ستستقر في أحضان من صنعها، وتقديري أنّ صعود ما يسمّى بتيار الإسلام السياسي كان ضرورياً ليعرف الناس طبيعته وعقله العاجز عن إدراك اللحظة وأكاذيبه وتجارته بالدين التي لم تعد خافية على أحد. وهم الآن يؤدون مشهدهم الأخير بعدما أهدروا 80 سنة في سبيل تولّي الحكم، ولم ينفقوا ساعة واحدة في التفكير في ما سيفعلون حينها.
وعلى كل، ستغسل الملائكة هذه العتمة
ويجد النهار طريقه للميدان
* شاعر وأحد أبرز مؤلفي الأغنيات في مصر، من أعماله «لما الشتا يدق البيبان» مع علي الحجار


شريف عبد المجيد*

سلامي لك، يا من كتبت تلك العبارة على جدران ميدان التحرير، فعبّرت عني تلك الكلمة التي وجدتها مكتوبة بخط أسود من دون تزيين أو زخرفة. كتبها شخص لم أتخيّل أبداً حجم الفخر الذي كان يحمله في تلك اللحظة. قال كلمته ومضى. صنع ثورته ولم يطلب لنفسه شيئاً. حاولت أن أسجّل بعدها ما رأيته على جدران المدينة من لوحات. لقد كشفت فنون الشارع في مصر عن زيف الكثير من المقولات النقدية. لقد أحب الشعب المصري فنون ما بعد الحداثة، فكان يستمع إلى الأغنيات التي ربما يصنع بعضها في المساء ليغنيها الثوار في الصباح، وعاد أمل دنقل إلى «الميدان»، وصوت الشيخ إمام وأشعار نجم وصوت شادية. لقد كانت الثورة في أحد معانيها ثورة الـ«أندرغراوند» مثل الغرافيتي وتنظيمات «الاولتراس» ضد الثقافة التقلدية المتكلّسة. لقد كانت ثورة هامش بامتياز على متن قديم وتقليدي جاثم على النفوس. سأكلّمك الآن عن نفسي، فأنا ابن لأب تم اعتقاله لأربع سنوات في عهد عبد الناصر. كان والدي عضواً في «الحركة الديموقراطية للتغيير» (حدتو) وكانت لديه حساسية شديدة وخوف كبير عليّ وعلى اخوتي من أن ننجرف في العمل السياسي أو حتى أن نشارك في المظاهرات. وأذكر أنّ المظاهرات الوحيدة التي شاركت فيها كانت ضد «مؤتمر مدريد». وبالمصادفة، أخذ مني العميد «الكارنيه» ومنعني من الحضور لمدة ثلاثة أيام. وهكذا لم أشترك بعدها بتاتاً في أي مظاهرة من أي نوع، لكن في «ثورة يناير»، لم أشترك فقط، بل كتبت مع زملائي البيان الأول للإعلاميين الأحرار الذي طالب بالقبض على وزير الاعلام ورئيس الاتحاد ليس فقط بسبب إهدار المال العام لكن بسبب تضليل الرأي العام. وشاركت بعد ذلك في التوقيع على بيانات تأييد الثورات في ليبيا واليمن والبحرين.
سأكلمك الآن يا صديقي عن الأديب أحمد زغلول الشيطي الذي قابلته في الميدان يحصي المتاريس، وكلمني عنها لمدة ساعة مشياً من «طلعت حرب» حتى «ميدان القصر العيني» عند عربة الأمن المركزي المحترقة التي استخدمها الثوار حاجزاً حتى لا يهجم عليهم البلطجية وأتباع مبارك. وبعد ذلك وجدته مدوّناً كل ذلك في كتابه «مائة خطوة على الثورة»، وسأكلّمك عن صديقي أحمد مؤمن الذي كان قد ترك مصر منذ أربع سنوات لضيق الفرص وصعوبة الحياة، وتزوج من روسية وعاش في موسكو ولم أره منذ سفره. لكنني وجدته في «الميدان». لقد كان في إجازة سريعة ولم يكن يريد إخبار أصدقائه. ولما حدثت الثورة، كان يقيم في «ميدان التحرير»، وألغى سفرة مصر «بقت بتاعتنا ياشريف» هكذا قال لي. لكنني أقول له الآن وأقول لك يا صديقي الذي كنت هنا «مصر لسه ما بقتش بتاعتنا بالكامل ومشوار الثورة لسه طويل حتى نحقق شعارتها عيش حرية عدالة اجتماعية».
* قاص ومؤلف كتابين عن الغرافيتي والثورة هما «غرافيتي الالتراس» و«أرض، أرض»، وصاحب فيلم «حيطان» عن فنون الغرافيتي.


أحمد الخميسي*

أتأمّل ما كتبته بعد عامين من الثورة. وبمعنى أشمل موقفي مما جرى، وكان محكوماً بعاملين رئيسيين: الأول إدراكي أنّ الثورة تدور في إطار الإصلاح السياسي وحده، إطاحة الرئيس، وتقليص الطابع العسكري، والوصول إلى دستور وانتخابات نزيهة. بعيداً عن مشكلات الشعب الأساسية وغياب البرنامج الاجتماعي والاقتصادي عن الثورة، مع تقديري لأنّ «الإصلاح السياسي» بحد ذاته خطوة متقدمة، التزمت الصمت نحو نصف العام، مراهناً على اختمار قوى سياسية تضع مطالب الشعب في التنمية والتعليم والتطور في قائمة اهتماماتها. هذا الرهان جعلني أكتب ثلاث مقالات بعنوان «الثورة العزيزة»، نبّهت فيها إلى أنّ «إصلاحاً سياسياً» فقط من دون برنامج اقتصادي واجتماعي يظل ثورة ناقصة. الاختمار الثوري الذي ترقبته لم يتم بالإيقاع المنشود، فكتبت «ثورة يقودها أعداؤها» في آب (أغسطس) 2011. وقلت إنّ «الثورة يقودها أعداؤها، ويحدد أهدافها خصومها، ويحيلون الدماء التي أريقت ضد النظام القديم إلى أعمدة لتثبيت دعائم ذلك النظام». وفي كانون الثاني (يناير) 2012 صدر كتابي «عيون التحرير في الأدب والسياسة» وكان محاولة للفت الأنظار إلى أنّ تاريخ الثورة يكمن في ماضيها الذي تصدى لمبارك وليس فقط في المحتشدين في الميادين، وأنّ «أدب الثورة» ليس تلك القصائد أو العروض السريعة المتأججة، لكن في ما سبق من أعمال مثل «واحة الغروب» لبهاء طاهر وغيرها. الآن، لا أعتقد أنني أخطأت في الرهان على احتمال اختمار قوى ثورية، كان لا بد من الانتظار. وحين أراجع الآن ما كتبته، لا أشعر بأنهّ لدي شيئاً كنت أود حذفه. لدي ّفقط أشياء كان ينبغي أن أكتبها ولم أفعل حين راهنت على تطور الوعي. كان ينبغي أن أكتب بقوة أكثر، محذّراً من كل الهواجس التي طافت في عقلي، وأن أكتب بنبرة أعلى وأوضح، لأنني الآن أرى أنّ «الثورة التي يقودها أعداؤها» قد انتهت إلى أيدي أولئك الأعداء. لهذا أشعر بطعم الثورة في فمي وروحي مثل قطعة حلوى مريرة، أو بهجة محزنة، وأحاسب نفسي على ما لم أكتبه، وعلى تصالحي غير الواعي وقبولي بفكرة «حركة بلا نظرية» و«ثورة بلا برنامج». على أي حال، اتضحت الآن الأهداف، وتبيّن لي في أي جهة يجب أن نصوّب الكلمة والفعل والحركة، لم تعد «ثورة ناقصة»بل ثورة مضادة في الحكم.
* كاتب مصري من جيل الستينيات، أصدر كتاباً بعنوان «عيون التحرير في الأدب والسياسة»


فيروز كراوية *

في حزيران (يونيو) 2011، كنت لم أزل عند ترددي. سيل من الغناء الغث عن ثورة اكتملت وانتصرت يصمّ أذني؛ بلا غناء بلا يحزنون.
الصوت الآخر يقول: علينا أن نحاول.
أصوات الكبار تقول: فن الثورة لم يظهر بعد، وما يظهر ليس بقيمة الحدث، كلام مستفز يستحق ردوداً مطوّلة عن عهود الغناء الموجّه الذي تنفق عليه الدولة.
كنا هكذا في تلك اللحظة، لا شيء يطاول حلمنا ولا استعلاءنا. كنت أقول لنفسي: «لن تكون أول أو آخر الأغاني، ولا يوجد شيء اسمه فن بقيمة الحدث. إنه الغناء، الفن الأجدر بأن يصاحب الحياة في كل ساعة، فقط عليه أن يكون قريباً وغير كاذب». كنت أقول لنفسي: «هذا هو المشهد الوحيد الذي سيبقى لأحكيه لابنتي، سأعيش معه كيفما تكونت أجزاؤه، منصوراً أو مهزوماً، سيحيا ويميت أحدنا الآخر».
هكذا كتبت مع الشاعر رامي يحيى عن «ناس كتير شافت قلوبهم، دنيا أوسع م السجون، فيها للناس الشوارع، والهوا وضرب الدفوف». ولدت «أحضان شوارع» على ايقاع Swing الافريقي الراقص كأغنية لثورة عنوانها البحث عن السعادة، وموسيقاها لا تبحث عن العظمة. هكذا كنت أريد أن أبدأ. في الطريق، لاحت أحزاننا حزناً وراء حزن، استدعيت قصيدة صلاح جاهين «مقدرش انسى البشر» التي غنيتها في 2007، لأصرخ على :Orchestrated Rock «جنب الخدود والنهود وعواطف العزاب/ موجود جنود مجرمين ناقصين قرون وانياب». وبعدها جاءت أغنية «آخر مرة» للشاعر إسلام حامد التي ظهرت خلال أيام «مذبحة محمد محمود» على لحن أقرب إلى العديد الصعيدي أنجزه الموسيقار المصري رمز صبري: «لآخر مرة اعيش هالك/ ما بين حرصي وإهمالك/ وعلمانية أنانية/ ودقن تفتش النية/ في أعمالك». معظم ما غنيت لم تستطع القنوات إذاعته، رقابات ما بعد الثورة. غناء عن المقتولين فى اقسام البوليس: «أمانة لو يوم روحي طلعت/ جوه أقسام البوليس/ وكنتو لسّاكم هنا/ تحطوا إسمي ف كل حتة/ وقبله ضيفوا كلنا». وغناء عن إعادة اكتشاف العشق في «ميدان التحرير»: «أنت أجمل منجم حب/ قلبي اكتشفه بالحرية». غنّينا لها كأطفالها، الذين ولدتهم من جديد، وأعادت ترتيب رواية حياتهم. فقد صارت روايتنا الجديدة، تكتب على حياة عيوننا، من الآن فصاعداً... لهذا غنيت في يناير 2012 أغنية بعنوان: «هنكمّل».
* مطربة قدمت ألبوماً عن الثورة بعنوان «برة مني»



مايكل عادل *

حتى وإن لم تكن تكتب في ما يخص الثورة، فليس من السهل أبداً أن تضيف حرفاً واحدة على صفحة بيضاء خلال فترة مضرجة بالدم كفترة الثورة. وليس من المفيد دائماً أن تكتب خلال هذه الفترات إلا إذا أضفت شيئاً جديداً بكتابتك أو قمت بالتحريض من خلالها أو قمت عن طريقها بالتوثيق الحسي وليس التوثيق الزمني. مثلاً لن يضير الشهيد لو تأخرت قصيدة رثائه قليلاً حتى انتهاء الكفاح، فميدان المعركة يحتاج إليك وقتها أكثر. ولكن ما هو جدير بالعكوف عليه هو قصيدة شعر تحريضية لمن هم في ساحة المواجهة «وأنت أحدهم بالطبع»، أو ربما مقال في جريدة واسعة الانتشار يزيد من قاعدة تأييد الثورة وانتشار فكرتك بأسلوب أدبي مؤثر.
وفي ما يخص الشعر، فمن المستحيل أن نضع قوالب محددة، فالشعر يلاحق رصاص الأمن وقد يهرع هارباً من الاعتقال أو يقف صامداً أمام البطش. قد يكون الشعر تحريضياً أو مستشفاً للمستقبل. قد يتهكم أحياناً أو يبكي كثيراً ولكنه غالباً ما ينتصر. للشعر دوماً رؤية، كثيراً ما تفاجئ الشاعر نفسه حين تتحقق أو تبدأ بوادر تحققها. فالشعر ـــ الوطني أو الثوري على وجه الخصوص ــ تكتبه الحالة التي تضع القلم على صراط التجربة ليسير فوقه سابقاً للزمن بلا مبالغة، ليرى ما أسفل قدميه من جحيم وما أمامه من جنّات النعيم، ولا يقبل إلا بالاستمرار والوصول حتى لو سقط الجميع في نيران الفشل. ولعل هذا ما يجعل الشعر خالداً عن الأشخاص لأنّه ـــ إن جاء صادقاً حقيقياً وليداً للحالة الثورية ـــ لا يكذب أبداً.
وكشاعر من أبناء تلك الفترة وقد عشت وكتبت منذ بداية التجربة التونسية وحتى اندلاع باقي السلسلة «البوعزيزيّة» مستمراً حتى نهاية الصراط، أرى أنه لا يُقال في هذا الشأن إلا «صدّقوا الشِعر».
* شاعر عامية ومؤلف أغنيات
للمطرب محمد محسن صدرت
في البوم «بلدك بعيد يا عنب»،
وديوان شعر بعنوان «س 28» صدر أخيراً عن «دار ميريت»، وأغنيات مسرحية «نشاز» لفرقة «حالة» (اخراج محمد عبد الفتاح) التي تضمنت حكايات عن الثورة



سعد القرش *

حين أتأمل عامين منذ انطلاق الثورة، يتأكد لي أننا عشنا قرناً كاملاً، حفل بالحلم والدم والمرارة والجسارة وأخيراً الرغبة في الفرز. أشعر بأن الثورة التي عمرها عامان صارت عجوزاً، يعجز جسدها عن حمل أثقال وضعها أعداؤها وبعض فصائلها؛ فما أقسى أن تفضي ثورة إلى إحباط. ربما كنا متفائلين أكثر من اللازم، وأبرياء أكثر مما تحتمله العاصفة. في 16 شباط (فبراير) 2011، وقعنا بيان «نحو دولة علمانية» يذكّر لجنة تعديل الدستور آنذاك بأن الدولة الحديثة لا دين لها، دينها المواطنة والقانون، ودعونا إلى استلهام دستور 1923، حيث المصريون متساوون في الحقوق المدنية والسياسية، على عكس دستور 1971، وتقول مادته الثانية: «الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع»، مادة عنصرية بامتياز، ومن المدهش أن العاصفة أضافت إليها في الدستور الجديد مواد أكثر عنصرية وفاشية، حتى أصبحت المادة القديمة حلماً للعلمانيين!
التأمل لا يجعلني أعيد النظر في كتابي «الثورة الآن... يوميات من ميدان التحرير» وحده، بل في وقائع الثورة نفسها، وقد كتبت كتابي بروح 18 يوماً أسقطت مبارك، «الطريق إلى الثورة ويومياتها». لن أغير شيئاً في تلك المقدمة/ الطريق، ولكني لو أعدت كتابة يوميات الميدان الآن، فسأنسف أوهاماً كثيرة، وأصير أقل تسامحاً مع قطاع كان شريكاً في الميدان، لا الثورة، حيث كان لنا عدو واحد، وحين جاءت لحظة ما اعتبره تقسيماً للغنيمة، استأثر بها لنفسها، وحرمها على الآخرين.
تابعت ثلاثة مشاهد دالة في «الميدان»:
مساء موقعة الجمل (2 فبراير)، قلت لمحمود قرني في حضور أحمد العايدي، على سلم «دار ميريت»، إنني خائف؛ ففي «الميدان» شركاء ما زلوا صامدين وسيطالبون بحقوق، هؤلاء أصحاب عقيدة وليسوا أهل ثورة.
مساء يوم 8 فبراير، وفي ميدان يخلو من التحرش، شكلت أذرع شباب ملتحين دائرة متحركة لما أطلقوا عليه مسيرة للأخوات، وسجلت في كتابي اعتراضي على هؤلاء الشباب ونقاشي معهم، ولكنهم مأمورون بأن يفعلوا ففعلوا.
مساء 11 فبراير، بعد ساعة من تنحي مبارك لم تعد التورية كافية، بدا السفور من وجوه تحرم السفور. وسجلت في كتابي: «فجأة رأيت ميدان التحرير يسرق، تغزوه العباءات السود لسيدات، واللحى الطويلة والجلابيب القصيرة. كانت الهتافات طوال 18 يوماً تجعل من الوطن عقيدة، ومن المستحيل أن تعرف دين صاحب الشعار، ولكن الليلة بدت كلحظة خطف الغنائم، واقتسام ميدان التحرير، وتوزيع فضائه وهوائه، ومكبر الصوت بيد مهووس ينادي: «تكبير»، فيرد المئات سعداء بالنصر: «الله أكبر».
الآن أرى الهرم قد انقلب أو يكاد. يقف على قمته المدببة، وتميل قاعدته مع الريح، وفي سقوطه سوف يسحق كثيرين، ثم يتسلقه الذين انتظروا هذه اللحظة، ويرفعون فوق قمته الجديدة رايتهم. انقلب الهرم فأمسيت أردد: «ذهبت الفكرة، وجاءت السكرة»، بدلاً من القول المأثور: «ذهبت السكرة، وجاءت الفكرة».
سجلت هذا الهاجس قبل أن أرى تجليات الاستعلاء من قوم مأمورين بالتواضع، ولو تأملت الثورة الآن، فسوف أستبعد تلك البراءة، لأن الخطوط امتدت على استقامتها، وظهر الديناميت الديني في نهاياتها، وما كنا نظنه ليلاً في الميدان حبلاً، تبين أنه ثعبان لا يحمل إلا السم. لا يملك من اغتصب مرتين رفاهية الاختيار، سيكون حاداً وجارحاً، وقد كنا سذجاً حين تركنا العسكر يضيعون فرصة ذهبية لبناء دولة القانون، حتى لو ادعوا أنهم حموا الثورة، فما كان لهم أن يغتصبوا الدولة، ويصادروا المستقبل، وما كان من حقهم أن يسلموا الجثة المغتصبة لشريك لهم في التواطؤ على الثورة. لكن قراءة التاريخ تدعوني للتفاؤل، وتزيد إيماني بأنها هدية مسمومة، وكما سحق قطار الثورة مبارك ورجاله العسكر، فسوف يواصل السير، ويقصي أعداءه عن الطريق المستقيم، حتى لو تلكأ قليلاً في منحنى الإخوان.
* روائي أصدر كتاباً عن الثورة بعنوان «الثورة الآن» صدر في طبعات عدة وترجم إلى الفارسية



وليد عبيد *

ما زلت معنياً بالثورة، لا أنكسر مع مساراتها، ولا أسمح للاحباط بغزو ذاكرتي والتهام يدي. لذلك أفضل أن أعمل في الشوارع مع زملائي، نفتش عن الأمل ونسقيه في حدائق تروى بدماء زكية. في الشهور التي أعقبت الثورة، جاء المجلس العسكري وتواطأ على أرواحنا واستحل دماءنا ببطء، فرسمت لوحة «لوحة عار» تنتقد أسلوب المجلس العسكري في إدارة مصر واهانة بناتها، ثم ظهرت لوحة «الضحية» وهي التي ترمز إلى شهداء الثورة الذين لم ينالوا أياً من التكريم أو القصاص لأرواحهم بينما انتفع من موتهم الانتهازيون. ثم نفذت لوحة «الفتاة ذات الشخصية» تكريماً لدور البنات والنساء في ثورتنا المجيدة وقوتهن في مواجهة الطواغيت وعدم انقيادهن وخضوعهن للقيود. كما رسمت لوحة «التعذيب بالدين» التي أثارت الكثير من الجدل بسبب تناولها الحاد لمن يعتبرون الدين والشرائع سوطاً وسيفاً على جلود ورقاب الناس، ويعد المعرض في مجمله بمثابة صرخة مدوية تذكر بثورة بدأت ولم تنته، ومحفزاً لموجة ثورية قادمة.
والآن أعكف على دراسة مجموعة من اللوحات التي تعبّر عما تعانيه مصر من كوارث، كما أحبّ أن أبتكر نوعاً شعبياً جديداً من فنون الشارع تماماً كالجداريات التي رسمتها في «شارع محمد محمود». وقريباً سيشاهدها جمهور الثورة على الارض، وستكون البداية المتوقعة هي لوحة «طواف الموت» التي تجسد الفترة الراهنة، حيث الموت المجاني الذي يسحب من أرواحنا آخر بقعة ضوء لكننا دوماً في انتظار الوصول الى نهاية النفق.
* فنان غرافيتي رسم لوحات وجداريات عن الثورة في شوارع القاهرة خصوصاً «شارع محمد محمود»