القاهرة | استعدّ «معهد المرسي أبو العباس» في الإسكندرية لاستقبال حاكم مصر. وحين وصل جناب الخديوي عباس حلمي الثاني، كان في انتظاره جهاز غريب الشكل، يديره اسكندريان من أصول غير مصرية، عزيز بندرلي وإمبرتو دوريس. لم يكن الجهاز إلا كاميرا حققت أول فيلم مصري شريطاً تسجيلياً لزيارة الخديوي. كان ذلك عام 1907 الذي يعدّ بداية التاريخ السينمائي العريق في المحروسة، أما اليوم، وبحلول الذكرى الثانية لاندلاع «ثورة 25 يناير»، يواجه الفنانون والمثقفون أسوأ كوابيسهم وهي وصول الإسلاميين إلى الحكم. لقد حانت المواجهة المباشرة التي حال دونها 200 عام من حكم الباشا والخديوي، السلطان والملك والعسكر، لقد حانت بينما الفن ليس في أفضل حال. أما المحافظون، فهم في أسوأ طبعاتهم الوهابية. في زيارته الأخيرة إلى مصر، ألقى الداعية السعودي محمد العريفي خطبة الجمعة في «مسجد عمرو بن العاص». قرأ أبياتاً من قصيدة حافظ إبراهيم الشهيرة «مصر تتحدث عن نفسها»، لكنه قفز من البيت الأول «وقف الخلف ينظرون جميعاً. كيف أبني قواعد المجد وحدي»، إلى البيت الثالث «أنا تاج العلاء في مفرق الدهر».
البيت الثاني الذي تجاوزه العريفي لم يكن إلا «وبناة الأهرام في سالف الدهر كفوني الكلام عند التحدي»، فالأهرام، والحضارة الفرعونية، ومصر القبطية، كلها من محظورات القاموس السلفي، المهيمن على الإسلام السياسي في نسخته المصرية المعاصرة، والمتحسس من كل ذكر لمصر قبل الإسلام، أو مصر بعد شبه الانفصال عن الخلافة بحكم محمد علي، فترة ما يعرف بتأسيس الدولة المدنية المصرية التي عاصرت لاحقاً سقوط الخلافة نفسها، ثم عصر الليبرالية المصرية المرموز سياسياً بحزب «الوفد» وزعاماته، وفكرياً بأحمد لطفي السيد وطه حسين، ثم التجربة القومية الناصرية، الأشد عداء ــ متبادلاً ــ مع الإسلاميين، إنها «الستينيات وما أدراك ما الستينيات» على حد قول الرئيس الإخواني محمد مرسي غداة إعلان انتخابه. يكاد الإسلاميون يقولون اليوم «ها قد عدنا يا عبد الناصر».
في القرنين الممتدين بين صدمة الحملة الفرنسية على مصر، وصولاً إلى نهاية تجربة العسكر في سقوط أردأ نسخها حسني مبارك، نشأ وازدهر وتراجع كل ما يسمّى اليوم «القوة الناعمة» أو «الدور الثقافي المصري»: ريادة السينما واحتضان المسرح والصحافة، انشاء الجامعات، التلفزيون والإذاعة، عصور الموسيقى الذهبية والغناء، فرق الفنون الشعبية ونجمات الرقص الشرقي، دار الأوبرا المصرية بنسختيها القديمة ــ المحترقة ــ والجديدة، فنانو الكاريكاتور والتشكيليون والنحاتون، أسماء ومنجزات تدخل اليوم في دائرة التحريم المباشرة لدى من صاغوا «دستور الثورة» وأمسكوا مقاليد الحكم. أولئك الرافضون حتى لمدرسة التجريد القرآني المصرية كونها استخدمت المقامات الموسيقية، مستوردين بدلاً منها النحيب الوهابي. يصعب إذن الحديث عن «مستقبل الفن» إزاء سلطة يحرّم أغلب أهلها «الاختلاط»، من ثم ليس غريباً أن بدأت سريعاً شكوى صناع الثقافة وجمهورها من التدخلات الخشنة للرقابة حتى على الأفلام الأجنبية في دور العرض المصرية، والمضايقات المتصاعدة لحفلات الموسيقيين الهواة والمستقلين، والبلاغات «الأخلاقية» التي صارت تنتشر طبيعياً، والمخاوف الأكبر حال وقوع هيمنة إسلامية جديدة على مجلس النواب المرتقب.
مع ذلك، فإن «ثورة يناير» التي قدمت، من بين أول شهدائها، التشكيليين زياد بكير وأحمد بسيوني، «الثورة» التي فجّرتها النخبة المتعلمة من شباب الطبقة الوسطى، أصحاب الوعي والموهبة والالمام بتقنيات العصر، تبدو ــ رغم كل خسائرها ــ مدركة لما هي مقبلة عليه. برامج السخرية ورسومات الغرافيتي وصفحات الانترنت تخوض المواجهة ضد السلطوية الدينية التي وصلت متأخرة وبلا مشروع. العصا الإسلامية الثقيلة سوف يصعب عليها كسر الخيال، أو ملاحقة أفكار العالم الافتراضي.
لكن ــ في جميع الأحوال ــ المعركة الصعبة الضرورية لإعادة الفرز، فالرجعية الدينية كانت قد تمكّنت من مجتمعات «تأسلمت» بالفعل قبل سقوط الأنظمة، وأنتجت مفاهيم شائهة على غرار «الفن النظيف»، اليوم تفرغ الساحة لمن يؤمنون بالفن والثقافة حقاً ليتصدّروا المواجهة، الانترنت يشي بلغة شبابية جريئة لم تعد تجامل أو تتوارى، وقد استطاعت في أشهر قليلة إلحاق أكبر الضرر بهالة القداسة الرجعية لتجار الدين. مفاهيم العلمانية والتنوير لم تعد مجنّبة بل صارت في قلب ساحة الوعي ومحوراً للمواجهات، ولم يكن مُتصوراً أن تنشأ جماعات مثل «علمانيون» التي بدأت في عقد المناظرات ورسم الغرافيتي في شوارع القاهرة، لعبة الإسلاميين في تكفير كل من يخالفهم أنتجت في النهاية جيشاً من «الكفّار». كثرة استخدام الألفاظ الدينية في السياسة أفقدتها سحرها، وحصرت تأثيرها في الجمهور الديني المباشر والريفي. وفي المحصلة فإن أعداء الحرية سيكسبون لعبة الانتخابات لأمد طويل، لكنهم يخسرون معركة الوعي بأسرع مما كان متصوراً.