عندما قرّر الرئيس الراحل رفيق الحريري بناء الدولة وفق رؤيته، جعل التسوّل من النظام السعودي مدرسة. يرمي "طويل العمر" فتات موائده في لبنان، فيصبح لزاماً على اللبنانيين التسبيح بحمد "خادم الحرمين". اشتغل الحريري، وورثته من بعده، وفق السياسة الرسمية السعودية: الإسكات، بـ"الحسنى"، او بقوة "القانون" وسيف أموال الاعلانات وغيرها من الوسائل المعروفة. كان ممنوعاً على اللبنانيين انتهاج أي سياسة تبني اقتصاداً وطنياً فيه شيء من المِنعة والاقتدار، وتقيهم ذلّ السؤال. الاقتصاد الحريريّ مبني على بيع الأرض للعائلات التي تسطو على ثروات أرض الجزيرة العربية (بيع العقارات في لبنان لأثرياء الخليج يُسمى جذب الاستثمارات)، وعلى سقط متاع قوافلها المحمّلة بالذهب نحو المصارف الغربية (ويُسمّى ذلك تعزيز القطاع المصرفي)، وعلى جذب بعض المهووسين بالجنس والمخدرات (واسم ذلك سياحة).
حماية هذه السياسة اقتضت بناء جيش تمنع الحريرية عن جنوده وضباطه العيش الكريم، لأن الإنفاق عليهم غير مجدٍ وغير مربح، وفق أدبيات وزير مال الحريرية، فؤاد السنيورة. أما تسليح الجيش، فلا يتم من مال اللبنانيين. الاقتصاد الحريريّ مبنيّ لدولة متخيَّلة، لا حروب فيها، ولا عدو على حدودها، ولا أخطار تتهددها، ولا حامي لها إلا سيد آل سعود. كما أن الاستثمار في تسليح جيش قوي، يحرم النظام السياسي موارد يفضَّل إنفاقها كرشى لتأبيد بقائه متسلطاً على رقاب الناس. لم يُسمح للجيش سوى بالحصول على ما يقرّره الأميركيون: أسلحة خفيفة، وآليات مستعملة حتى باتت متهالكة، وبرامج تدريب محصورة. كل تطلّع إلى مصادر أخرى للتسليح يُواجَه بالتهديد بقطع المعونات الأميركية التي لا تكفي لتجهيز مفارز شرطة فعّالة. كمن يُمنع عنه الطعام، إلا بما يكفي لإبقائه على قيد الحياة بحدها الأدنى، ثم يُهدّده من يحقنه بالقليل، بقطع مصدر عيشه إذا ما حاول الحصول على ما يسد رمقه من مكان آخر. قبل أقل من عامين، استفاق ملك سعودي، بإذن أميركي طبعاً، وقرّر زيادة منسوب ما يتلقاه الجيش اللبناني من مساعدات.
الأميركيون أبلغوا قهوجي انهم سيسلّمون الطائرات حتى لو امتنعت السعودية عن الدفع
"عاشت الملكة العربية السعودية"، قالها رئيس الجمهورية، قائد الجيش السابق، ميشال سليمان؛ آل سعود قرروا منح فرنسا 3 مليارات دولار، مكافأة لها على دورها المتصلّب في سوريا، وفي المفاوضات النووية الإيرانية. وبهذه المليارات، سيُرسل لنا الفرنسيون أسلحة انتقتها إسرائيل. دُبّجت المدائح للملك الذي قيل إنه أصاب عصافير عديدة، على رأسها تعزيز دور نظامه في لبنان، و"سحب الذرائع" من المنادين بالحفاظ على سلاح المقاومة. ثم، ولتعزيز القدرة على مكافحة الإرهاب، زار الرئيس سعد الحريري لبنان، حاملاً في جيبه مليار دولار، هبة شخصية من الملك السعودي عبدالله بن عبدالعزيز. هنا أيضاً، انهالت على "مملكة الخير" قصائد لم يقلها المتنبي في سيف الدولة. مات الملك، فطالب أبناؤه بمال أبيهم، ومنه المليار الذي قيل سابقاً إنه في جيب الحريري. توقّف إنفاق "الهبة". بدأ حكام نجد الجدد عدوانهم على اليمن، مفتتحين عهد الجنون. يريدون تدمير اليمن وقتل أهله بصمت. تماماً كما احتلوا البحرين. وقتلوا المعتمرين برافعات الفساد في الحرم المكي واغتالوا الحجاج بسوء إدارتهم في مِنى. وارتكبوا مجزرة إعدام بحق من قالوا إنهم إرهابيون. ويُمنع على أي كان الاعتراض ولو همساً. وفيما هم يخفضون إنفاقهم العام بعدما تذوقوا طعم خفضهم أسعار النفط، ولتمويل حربيهم على اليمن وسوريا، قرّروا نقل الجنون إلى لبنان. هدّدوا بطرد اللبنانيين الذين يعملون في أرض الجزيرة العربية، ثم "أهدوا" الحريري إعلاناً بوقف العمل بهبتَي تسليح الجيش. يتذرعون بموقف حزب الله المعارض لعدوانهم على اليمن وسوريا، لوقف تسليح الجيش، بعدما صوّروا سابقاً الهبتين كحجر الزاوية في سياسية محاصرة الحزب.
رجال الاعمال الذين يعتاشون من مشاريع آل سعود في الحجاز ونجد والإحساء يهمسون بأن النظام الحاكم لا يدفع لهم بدل اعمالهم منذ أشهر. المملكة إذاً لا تريد ان تنفق، لأسباب خاصة بسياستها المالية الجديدة. لكن إعلانها أمس وقف تنفيذ الهبتين ليس قراراً مالياً، بل قرار سياسي بتصعيد المواجهة في لبنان. وفيما لجأ رئيس الحكومة تمام سلام والحريري إلى استجداء السعوديين العودة عما فعلوه، انتقد حزب الله هذا الاداء، متهماً آل سعود، في بيان شديد اللهجة، بالتذرع بموقفه من العدوان على اليمن وسوريا والبحرين، لإخفاء قرارهم المبني على أسباب تقشفية.
وزير الداخلية نهاد المشنوق بشّر اللبنانيين بما هو "أعظم". وما هو أعظم، بحسب أكثر من مصدر سياسي، يندرج تحت عنوانين: طرد ما امكن من اللبنانيين من الخليج، وسحب وديعة من مصرف لبنان، موجودة منذ العام 2006، قيمتها 800 مليون دولار. وبحسب مصرفيين، فإن سحب هذه الوديعة، لا يؤثر بذاته على الوضع النقدي للبنان. لكنه يهز الثقة بالاستقرار. شبّهه احد المصرفيين بدخول سارق إلى مصرف، حاملاً مسدساً يطلق الماء بدل الرصاص. فإذا عرف العاملون في المصرف انه مسدس مائي، لن يستجيبوا للسارق. اما إذا توهموا ان المسدس حقيقي، فسيمنحونه فرصة نهب ما في حوزتهم. كذلك الامر بالنسبة للتسليح. الخاسر هو فرنسا، لا لبنان، الذي لم يكن سيحصل من "الهبة" على ما ينقل جيشه إلى مستوى الجيوش الحديثة والقوية. اما هبة المليار، فلن يضيع منها شيء هي الاخرى. الأميركيون أبلغوا قائد الجيش العماد جان قهوجي انهم سيزودون المؤسسة العسكرية بالطائرات التي كان سيدفع ثمنها ورثة عبدالله بن عبدالعزيز. هم حريصون على دوام احتلال موقع المورّد الوحيد للجيش اللبناني، ويُفشلون، عبر ادواتهم في لبنان، أي محاولة للحصول على أسلحة اخرى، كعرض الهبة الروسية عام 2008، والعرض المتكرر للهبة الإيرانية.
الامر إذا يقتصر على السياسية. جنون آل سعود يظهر في مسائل أخرى. تروّج قناة العربية لشريط "وثائقي" عن الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، وتصفه في الإعلان بأنه أشهر المنشقين عن حركة أمل، في محاولة للتذاكي، واللعب على وتر ثنائية الحزب والحركة.
لا شك في أن ثمة مستفيداً وحيداً مما قام به آل سعود، منذ إعلانهم عن الهبتين حتى يوم امس، وهو السمسار الذي قبض عمولة كبيرة، للوساطة بين بيروت والرياض وباريس، وهي عمولة بمئات ملايين الدولارات. ومما جرى، ثمة خاسر رئيسي. إنه الرئيس سعد الحريري الذي أتى قبل عام حاملاً مليار دولار، ثم سُحب منه في طريق العودة إلى بيروت قبل أيام ممنياً النفس بالحصول على رئاسة الحكومة، عبر إيصال مرشحه إلى رئاسة الجمهورية. هجوم آل سعود، بإجماع القوى السياسية أمس، يضيف المزيد من التعقيد على القضايا الخلافية في لبنان، ويبعد المرشحين عن قصر بعبدا. وبالتالي، يحوّل الحريري إلى واحد من سياسيي فريقه الذين يكتفون بالإكثار من الكلام الذي لا وزن له. اما إذا قرّر النظام السعودي رفع جرعة الجنون، واللعب بالامن في لبنان، فلن يكون إلا كمن قرّر إطلاق النار في رأس مشروعه.