لم تكن تل أبيب تنتظر ظهور اسم الحاج رضوان في المستندات العسكرية التي قالت إنها غنمتها خلال «حرب لبنان الثانية»، حتى تدرك موقع الرجل بوصفه «المحور الذي تدور حوله الماكينة الأمنية والعسكرية والاستخبارية والعملانية لحزب الله»، على حد تعبير أحد المعلقين الإسرائيليين. فاسم عماد مغنية احتل رأس قائمة المطلوبين في الدولة العبرية، وبقي لأكثر من عقدين يتمتع لديها بلقب «الإرهابي رقم واحد» الذي كان يتبادر ذكره إلى أذهان ضباط الاستخبارات ـــ وفقاً لإقرار بعضهم ـــ بعد كل عملية «إرهابية» كانت تحصل في العالم.
وإذا كانت لائحة العمليات الموجعة ضد إسرائيل التي ينسبها هؤلاء الضباط إلى مغنية تطول، فإن ما يضاهيها في الاستطالة لائحة الألقاب والأوصاف التي أغدقوها عليه، والتي تشي بنوع من التقدير المهني لأدائه بقدر ما تعكس سعياً واضحاً إلى شيطنته. فهو «عقل» حزب الله «الشديد الدهاء» و«الشخصية العملانية الأهم فيه» الذي «لا يمكن الإشارة إلى أي عملية نوعية نفذها الحزب من دون أن يكون هو من يقف وراءها»، والذي «يصعب رسم صورة لشخصية عالمية أكثر خطورة وحنكة وخبرة» منه، «وإذا كان ثمة رجل يمثِّل رمزاً لمحور الشر بمفهومه الأساسي جداً، فإن اسمه عماد فايز مغنية». ولأنه كل ذلك وأكثر، فإن اقتفاء أثره للاقتصاص منه، كان «واحداً من أكثر التحديات تعقيداً» لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، كما كان اغتياله «الإنجاز الاستخباري الأهم (لهذه الأجهزة) في تاريخ محاربتها للإرهاب».
ومما لا شك فيه، أن «حساب الدم» بين إسرائيل ومغنية كان الخيط الواصل في مسلسل المطاردة الذي تعاقبت عليه أجيال استخبارية في «الموساد» و«آمان» (شعبة الاستخبارات العسكرية)، إلا أن الأكيد أيضاً أن الدافع الانتقامي وحده لا يفسّر الجهد الدؤوب لتل أبيب لشطب مغنية من معادلات الصراع بينها وبين حزب الله، ومن ورائه حلفاؤه الآخرون في «محور الشر». وإذا كان في إسرائيل من رأى أن الانتصار الذي تطلعت إليه في «حرب لبنان الثانية» جاء متأخراً عاماً ونصف عام متجسداً في الثأر من مغنية، فإن هناك من كان واضحاً في الإشارة إلى أن اغتيال القائد الجهادي لحزب الله جاء ضمن سياق أوسع يتصل على الأقل بعاملين إضافيين، هما ترميم الردع الإسرائيلي الذي تهشم في هذه الحرب، وتوجيه ضربة في الصميم إلى منظومة قدرات المقاومة التي تنامت بعدها باطّراد.
على صعيد العامل الأول، أي ترميم الردع، أرادت إسرائيل أن توصل رسالة مفادها النجاح في اختراق «الهيكل المقدس» للمقاومة، المتمثل بقيادتها السرية، وإيداع إنذار بالقدرة على الوصول إلى بقية القيادات في الوقت الذي تختاره، لتعيد بذلك تعويم تفوقها الاستخباري، بما يدفع المقاومة إلى الغرق في تدابير الحذر والدخول في دوامة مفتوحة من الشك والتدقيق، علماً بأن هذا النوع من العمليات الأمنية، كان الأسلوب الوحيد المتاح أمام إسرائيل ـــ في حينه ـــ لتستعيد هيبتها المفقودة في تموز 2006 أمام أعدائها، وتستعيد ثقتها بنفسها أمام شعبها وحلفائها.
أما على صعيد العامل الثاني، فتل أبيب كانت على علم بدور مغنية في إرساء البنية التحتية لشبكة إقليمية من التعاون الاستراتيجي الهادف إلى بناء قدرات نوعية للمقاومة في كل من لبنان وفلسطين ترتقي بها إلى مستوى غير مسبوق من التسليح والتجهيز؛ شبكة شكّل فيه بشخصه وعلاقاته وخبراته وصلاحياته المفتوحة حجر الزاوية وهمزة الوصل بين كافة المكونات والأطراف ذات الصلة، بدءاً بإيران، وصولاً إلى سوريا. وعلى هذا الأساس، كان الرهان الإسرائيلي على خلخلة هذه البنية من خلال استهداف أركانها الأساسيين كالشهيد مغنية، ومن بعده الشهيد (العميد في الجيش السوري) محمد سليمان الذي كان، بحسب الرواية الإسرائيلية، المسؤول في الجانب السوري عن التنسيق مع مغنية.
لكن هل أصاب حجر إسرائيل كل العصافير التي رمتها؟ من المؤكد أن اغتيال مغنية أعاد البسمة إلى الوجوه العبوسة للمسؤولين الإسرائيلين بعد حرب تموز، وهؤلاء تغنوا طويلاً بحجم الإنجاز الانتقامي الذي سجلوه ضد القائد العسكري والأمني للمقاومة، من غير أن يحول ذلك دون إثارة تساؤلات جدية تتعلق بمدى الجدوى التي حققها الاغتيال من زاوية الأهداف المرجوة الأخرى.
تساؤلات من قبيل: هل ستؤدي تصفية مغنية إلى تقليص الخطر الذي يمثله حزب الله على إسرائيل، ولا سيما في ضوء السوابق التي أظهرت أن ضربات من هذا النوع ضد الحزب تقود دائماً إلى مفاعيل عكسية، والمثال الأبرز على ذلك هو اغتيال أمينه العام السابق، السيد عباس الموسوي؟ وقد أشار معلقون إسرائيليون في حينه إلى أن التقدير السائد في دوائر القرار الإسرائيلية ترجح أن يستعيد حزب الله عافيته العسكرية والأمنية على المدى غير البعيد، ويعود بنحو عادي إلى مواصلة بناءة قوته وجهوزيته القتالية استعداداً للمواجهة القادمة. وإذا كان هناك من تردد في التوصل إلى هذا الاستنتاج، فإن الخط البياني المتصاعد للتهديدات التي أطلقها الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، منذ اغتيال مغنية، كان كفيلاً وحده بالكشف عن حجم القدرات الاستراتيجية التي دخلت إلى بنية المقاومة، في ما يشير بوضوح إلى عدم تأثر جهوزيتها برحيل قائدها الميداني السابق.
وبقي السؤال الأهم عن طبيعة الثمن الذي ستدفعه إسرائيل اقتصاصاً منها على فعلتها. وهنا يمكن القول إنه كان واضحاً منذ اللحظة الأولى لصناع القرار الإسرائيليين كما لدى الرأي العام فيها، أن الأمر لا يتعلق بما إذا كان حزب الله سيرد على اغتيال مغنية، بل كيف ومتى؟ وهذا الإجماع الإسرائيلي على توقع الرد لم يحل فقط دون اكتمال الفرحة باغتيال مغنية، بل أطلق موجة من الترقب والحذر اجتاحت كل حضور إسرائيلي في الخارج، ووجدت ما يبررها في تركيا وتايلند وآذربيجان والهند وجورجيا وبلغاريا وغيرها. موجة لم تفقد زخمها مع الوقت، وأنتجت مفارقة فحواها أن الموعد الإسرائيلي الدائم مع الرد على عملية اغتيال مغنية ـــ العملية أريد لها أن تكون إقفالاً لحساب مفتوح ـــ فتح حساباً متجدداً لا تملك إسرائيل قدرة المبادرة على إقفاله.