يصف ش. ي.، احد المبعدين من الامارات أخيراً، بكثير من الغصّة، مشهد السيارات التي تركها المبعدون اللبنانيون في مطار دبي. يقول إن المشهد ذكّره بمشهد وادي "خلة العذب"، بالقرب من بوابة رامية في الجنوب اللبناني ليلة التحرير عام 2000. حينها، ترك الفارّون اللحديون مئات السيارات في قعر الوادي قبيل عبورهم الشائن الى فلسطين المحتلة. الغصّة في قلب المبعد جاءت من المقارنة بين المشهدين التي فرضت نفسها كإهانة عليه خصوصاً انه من الجنوب. يقول، بمرارة، «كأننا داعش او اسرائيلية» وهو يقوم عن كرسيه مقترباً من النافذة، مولياً ظهره لنا، ربما ليموّه ما انعكس في عينيه من أسى. فهو أمضى شبابه في «بلده الثاني»، أحبّ هناك وتزوج وأنجب، واشترى "بالتقسيط"، ككل الوافدين، شقة، وبنى عملاً وصداقات. لا يفهم الكهل كيف يمكن ان يُطلب منه ان يرحل خلال 24 ساعة من الامارات كأنه عبد لا حقوق له، والأنكى «لأسباب أمنية» لم يتكلّف احد عناء شرحها له. هو الذي حرص على الابتعاد عن السياسة حتى من باب إبداء الرأي بما يحصل في بلده الأول وليس الثاني.
يفهم المبعدون، أو اغلبهم، ان عبارة «لأسباب أمنية» ليست في الحقيقة إلا اسماً تمويهياً لإجراء يتوخى ان يكون موازياً، في الضغط، للقانون الاميركي الذي صوّت عليه الكونغرس مؤخراً لمنع «تمويل حزب الله»، والذي تبين في الحقيقة انه يستهدف بيئة المقاومة اكثر من المقاومة نفسها.
قانونياً وضع المبعدين من الإمارات والسعودية مشابه تماماً لوضع العاملات الأجنبيات في لبنان

"قطع الارزاق من قطع الأعناق" قيل قديماً، والمملكة السعودية التي لا تزال تطبّق "قطع الأعناق" حرفياً، لن تغصّ بقطع ارزاق آلاف اللبنانيين، في محاولة واضحة لابتزاز حكومتهم المائعة من اجل التدخل في قرارات سيادية، لم ينفك حكام الخليج يشاركون في اتخاذها منذ "الاستقلال".
ومن دون أي معرفة بالقوانين، يحق للمرء المتمتع بحدٍّ أدنى من الحس السليم والعدالة، أن يتصور أن هناك انتهاكاً فاضحاً وموصوفاً لحقوق الإنسان في قضية ترحيل اللبنانيين من الخليج، من دون إبداء أسباب أو إتاحة الفرصة امامهم للدفاع عن انفسهم. لكن، وبعد التسليم بأن ما جرى قد جرى، ألا يستحق هؤلاء تعويضاً عن هذا الإبعاد التعسفي كونهم لم يرتكبوا أي خطأ؟ وكيف سيقومون بواجباتهم تجاه المصارف التي اقترضوا منها إن كانوا قد أُبعدوا بالطريقة التي رُحّلوا بها؟ ثم إن هم سدّدوا ثمن الشقة التي تركوها في الخليج، او السيارة او غيرها، هل تعتبر عندها هذه من ممتلكاتهم؟ وان كانت كذلك كيف سيصلون اليها ويستفيدون منها وهم المبعدون «الى الأبد» من بلدان اغترابهم؟
ببعض الخجل من وضعنا كلبنانيين عنصريين، تلتقط المحامية نايلة جعجع المتخصصة بالقانون الدولي/حقوق إنسان، ملاحظة مهمة، وهي ان وضع اللبنانيين المبعدين من الخليج يشبه الى حد كبير وضع عاملات المنازل الأجنبيات في لبنان، حيث يسود نظام الكفيل العنصري، اضافة الى ما تيسّر من عنصريات متفرقة لها علاقة بوضع العاملة الضعيف كامرأة ملوّنة وفقيرة، والاهم لا حقوق لها! وتضيف: «للاسف اوضاعهم تشبه كثيراً وضع العاملات اللواتي يُرحّلن أحياناً من دون ان يكن قد قبضن اتعابهن عن سنوات من الخدمة. في هذه الحال، وأتصور ان المبعدين قانونياً في الوضع ذاته، لن تقبض العاملة الاجنبية اي جبر خاطر او تعويض، إلا ان كانت قد وكّلت محامياً أو جمعية ما لمتابعة تعويضاتها محلياً بعد ترحيلها. كذا على المبعدين أن يوكّلوا محامياً في بلد ابعادهم للطعن في القرار او متابعة ما علق من معاملات كمعاملات المصرف».
وتلفت المحامية التي عملت سابقاً في المحكمة الجنائية الدولية إلى أن الطعن ممكن في قرار الإبعاد، «وهنا المشكلة، لأن المبعد لم يؤمّن له حق الدفاع عن نفسه داخل البلد المضيف. من أُبعدوا من الخليج لم يوكّلوا محامين قبل خروجهم لأنهم أُبعدوا خلال 24 ساعة، لا بل إن أي محام مقيم في الخليج ممن اتصلتُ بهم لأستفسر عن الموضوع وعن قوانين البلد هناك، لم يقبل حتى بالتحدث عن الموضوع. حتى هؤلاء خائفون على مصالحهم».
ينصح أستاذ القانون الدولي الدكتور حسن جوني، بالفصل بين «قضيتي الطرد واقساط المصارف. فقضية الطرد تتعلق بالقانون الدولي العام والمعاهدات الدولية وحقوق الإنسان، في حين ان قضية القروض من المصارف تتعلق بالقانون الدولي الخاص والتجاري". ويوضح: "البنك ما إلو علاقة شو عملت الدولة. وان اردنا ان نشتغل بطريقة علمية، علينا العمل على اثبات ربط نزاع بين القضيتين».
عدم توقيع دول الخليج على الاتفاقيات الدولية لا يعفيها من احترام حقوق العمال المهاجرين

وكيف يكون ذلك؟ يجيب: «على المحامين المدافعين عن المبعدين في الخليج وفي لبنان ان يتقدموا امام المحاكم بربط قانوني لقضيتي الطرد والتعويضات. وبالتالي ربط قضية الدفع للدائنين بقضية الحصول على تعويضات الطرد من قبل الدولة. علماً أن هذا صعب».
لكن، أليست هناك قوانين دولية تتعلق بحقوق الإنسان يمكن ان تعلو فوق قوانين الدولة المحلية؟ وما هي المراجع القانونية التي على هؤلاء اللجوء اليها للحصول على تعويضات طردهم؟ يجيب: «حين يقولون لأسباب امنية فهذا القرار سيادي (أي انه يحق للدولة طرد من يحلو لها لاسباب امنية) انما يمكن مراجعة القضاء للمطالبة بتعويضات عن الضرر المادي والمعنوي اللاحق بهم. وإبراز ان هذا الطرد لم يكن ناجماً عن خطأ ارتكبوه أو اعمال قاموا بها. إنما ناتج عن قرار تعسفي وانتقامي لاعمال قام بها آخرون، وربما لقرارات سياسية اتخذها فريق آخر لا تربطهم به أي علاقة، او لاسباب مذهبية او دينية، واثبات ان هذا القرار شكل انتهاكاً خطيراً لحقوق المبعدين». يتابع: «أهم هذه الحقوق المحمية دولياً، الحق بمحاكمة عادلة*، وكذلك المادة التاسعة من العهد الدولي لحقوق الانسان المدنية والسياسية التي تنص على انه لكل شخص حق الدفاع عن النفس والخضوع لمحاكمة عادلة، وهو ما لم يحصل. حيث انه لم يعطَ للمبعد أي فرصة للدفاع عن النفس امام اي هيئة إدارية او قضائية في الخليج».
ويستطرد جوني شارحاً: «المادة 15 من الاتفاقية الدولية لحماية العمال المهاجرين واسرهم تقول إن العامل المهاجر لا يُحرم أو أيّ من اسرته تعسفاً من أيٍّ من ممتلكاته سواء أكانت مملوكة أم مشتركة مع الغير (...) وإذا صودرت كلياً أو جزئياً (...) بمقتضى التشريع النافذ في دولة العمل فإنه يحق للشخص المعني أن يتلقى تعويضاً عادلاً وكافياً». كما تنص المادة 22 من الاتفاقية نفسها على انه «لا يجوز ان يتعرض العمال المهاجرون وأسرهم لإجراءات الطرد الجماعي ويُنظر ويُبتّ في كل قضية طرد على حدة. وتنص المادة 13 من العهد الدولي لحقوق الانسان السياسية والمدنية (عام 1966) على انه لا يجوز ابعاد الاجنبي المقيم بصفة قانونية في اقليم دولة طرف في هذا العهد».
لكن هذه الدول لم توقع على تلك الاتفاقيات! يقول: «صحيح، إلا ان هذه الحقوق اصبحت تشكل اليوم عرفاً دولياً لا يعفى غير المنضمين من احترامها. والأهم من كل ذلك، ان "الحق في محاكمة عادلة" يعتبر اليوم كالحق في الحياة، ومنع التعذيب، ومنع العبودية، نواة القانون الدولي. كذلك العقاب الجماعي لأن العقاب يكون فردياً لعمل قام به شخص وخالف فيه القانون». ويخلص الى اننا «أمام قضية معقدة من دون ادنى شك، فيها انتهاك واضح وموصوف لحقوق الانسان. ويحق للمتضررين طلب تعويض معنوي ومادي. لكن هذه العملية تتطلب إجراءات دقيقة ومعرفة بقوانين الدولة التي أبعدوا منها والقوانين الدولية وحقوق الانسان». وينصح المبعدين بخطوة اولى ضرورية وهي "توكيل محام في البلد الذي أبعدوا منه وفي دولتهم الأم والاستعانة بخبراء دوليين في هذا المجال».
حسناً، بم ننصح المبعدين؟ بعد طول تفكير وتقصٍّ، هناك طريقان: الأول طويل وشاق لكنه قانوني، وقد يقرر سابقة دولية، يُستفاد منها في المستقبل في قضايا مشابهة، شرط توكيل محام اجنبي، كما نصح الخبراء، والافضل من جنسية مستعمري الخليج القدامى والجدد، ذلك أن الاجنبي سيد في الخليج. والثاني اقصر، لكنه عملي وفردي ويندرج تحت منطق ميزان القوى.
اما الاول فقد افضنا في وصفه، في حين ان الثاني من شقين: الاول عدم تسجيل اي من املاك المبعدين في لبنان باسمهم، بل باسم أولادهم أو امهاتهم لئلا يطالهم القانون بالحجز عليها لاستيفاء القروض، خصوصاً ان ميزان القوى بين سادة الخليج وخدمهم في السلطة اللبنانية واضح.
والثاني ان يلجأوا الى من طردوا باسمها، حتى ولو لم تكن لهم بها علاقة كما غالبيتهم الساحقة، أي المقاومة، علّها تشكل بجناحها الموجود في السلطة، غطاء لإجراء لا يقل تأديباً وتعالياً عن الإجراء الخليجي وهو بكل بساطة: لن ندفع، بلّطوا البحر!
*حسب المادة 18 من الاتفاقية الدولية لحماية حقوق العمال المهاجرين واسرهم الصادر عام 1990



أمن قومي!

يروي ج. ع. أ.، في ما يأتي، قصة ترحيله العبثية من دولة الإمارات:
«سافرت الى الخليج قبل 20 عاماً. بعد ان تنقلت بين السعودية وقطر استقررت في الامارات منذ 10 سنوات. قررت وقتها أنه آن الأوان لأبدأ عملي الخاص. تشاركت مع احد المواطنين (الاماراتيين) وكبرت الشركة، ولانني احلم بالعودة يوماً والاستقرار في بلدي قررت شراء قطعة ارض وبناء منزل فيها، فاقترضت من الامارات لشراء الارض واقترضت في لبنان للبناء. وحيث ان راتبي كان 10 آلاف دولار، ولي حصة من الشركة بقيمة ٢ في المئة‏ (تعادل قيمتها الشهرية أربعة آلاف دولار) لم أبالِ بأن قيمة القسط في لبنان ستكون 2000 دولار لمده 15 سنة وفي الامارات 1500 دولار لمدة 5 سنوات. هكذا، بدأت بالبناء ومرت سنتان وانا ادفع الاقساط بانتظام الى ان جاء موعد تجديد الاقامة. اتصل بي شخص وقال: معك شرطة ابو ظبي، الأمن، جيب جواز سفرك وتعال. ذهبت الى المقر، وهناك اخذ مني الجواز واخرج كدسة كبيرة من الاوراق، كل واحدة باسم شخص، فتش بينها عن اسمي، اخرجه وقال: جاءت الأوامر بعدم تجديد اقامتك. وعليك المغادرة خلال 24 ساعة! ثم لوح ببقية الرزمة قائلاً بتهكم: كل هذول رح يلحقوك! كنت مذهولاً. ختم جواز السفر ثم اخذني لالتقاط بصمة للعين وبلغني بأنني لن استطيع دخول دولة الامارات للابد! لكن، ما هو السبب؟ ماذا فعلت؟ اجابني: رسمياً لا نقول، مكتوب هنا لاسباب تتعلق بالامن القومي! يا الهي امن قومي؟ أأضحك أم ابكي؟
وضعوني في السجن الى ان يأتي شخص ليكفلني برهن جواز سفره لضمان مغادرتي خلال 24 ساعة!
«24 ساعة؟! هل تكفي لاحضار افادات المدرسة لاولادي وتصديقها من وزارة التربية هناك ثم من وزارة الخارجية ومن السفارة اللبنانية؟
24 ساعة! هل تكفي لتشحن عفش بيتك وتضب ثيابك؟ هل تكفي للذهاب الى البنك لتنهي معاملات اخر قسطين تبقيا من السيارة؟ ومن ثم تذهب الى المرور لانجاز معاملات شحنها؟
24 ساعة! هل تكفي لتودع احبابك ورفاقك وزملاءك في العمل؟ ولتتجول مرة اخيرة في هذه المدينة التي عشت فيها احلى سنين حياتك واحببتها كأنها بلدك؟
24 ساعة! هل تكفي لتصفية شركتك وأخذ مستحقاتك المالية؟ آه صحيح. مستحقاتي المالية. كان صاحب العمل في اجازة في لندن، وفرق التوقيت لا يساعد. وبعد ان ايقظته، اخبرته بما حصل، فقال: ما اقدر اعطيك فلوس نهاية الخدمة، لانه يجب ان اسدد قروضك للبنك!
لكني املك 2 في المئة‏ من اسهم هذه الشركة، وقيمتها الآن فوق 200 مليون درهم! اكتفى بالجواب: سأتصل بك لاحقاً. وبالطبع، لم يتصل!
هكذا رجعت الى لبنان بعد 20 سنة إيد من ورا وإيد من قدام. ولكي تكمل المصيبة، تلقيت اتصالاً من شركة تحصيل اموال يفيد بأن المصرف رفع دعوى ضدي لعدم تسديدي الأقساط! قلت له: لكن كفيلي الخليجي قال انه سيسددها لقاء عدم دفع تعويضي! فأجابني: لم يسدد شيئاً، وفي حال لم تسدد انت سيُحجز على املاكك. راجعت وزير الخارجية فقال لي حرفياً: لقد اتصلت بوزير خارجية الامارات وطلبت منه أن يعطينا سبباً لترحيل اللبنانيين فقال لي: أمن قومي».