نجح رئيس الجمهورية ميشال سليمان في استعمال «طاقيّة الإخفاء» لفترة معقولة. بدا الرئيس خلال القمة العربية في العاصمة القطرية، أمس، منسجماً مع نفسه. هو الآن في خريف العهد، وعلى غرار أغلب رؤساء الجمهورية اللبنانية السابقين، بات أمام ضرورة التموضع الكامل في محور واضح. لقد اختار سليمان محور أميركا.
عارفو الرجل، يقولون إنك لو بحثت في ياقة بذلته العسكريّة السابقة، لوجدت علامة «فخر الصناعة السورية». كان تعيينه قائداً للواء المشاة السادس المنتشر في البقاع عام 1996، بمثابة «بطاقة الدخول» إلى مكتب اللواء غازي كنعان، ووضع خلفه صورةً مع حاكم عنجر والابتسامة تعلو شفتيه. بقدرة كنعان، وصل سليمان إلى كرسي قيادة الجيش وتمّ اختياره من بين أكثر من 25 ضابطاً مارونياً لتولّي المهمّة بعد الرئيس إميل لحود (بقيت صورة لحود وهو يضع الرتب على كتف سليمان في مكتب الأخير سبع سنوات، وأزيلت عن مكتبه بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري).
وبعد، انتصر الجيش اللبناني وقائده وقتها بالقذائف والقرار السوري في معركة نهر البارد، والدعم الأميركي «النظري». ومن كان ليتخيّل سليمان رئيساً للجمهوريّة بعد توقيع اتفاق الدوحة، ومعادلة السين ــ السين، من دون رضى سوريا؟
كالشمس، يسطع تبدّل سليمان شيئاً فشيئاً. «طوشة» تمويل المحكمة الدولية كانت فاتحة الانقلاب. أعرب الرئيس وقتها أمام وفد حزب الله عن رغبته العارمة بتمويل المحكمة، وتأكيده أنه لا يستطيع مواجهة الضغوط إذا عارض التمويل. ومع اشتداد الضغط الغربي والعربي على سوريا، بدأ الهلع يستوطن قلب الرئيس. لم تعد دمشق بنظره حاضنة تكفي، وصار لزاماً عليه البحث عن بديل. في أحضان السفيرة الأميركية مورا كونيللي ما يكفي من الدفء.
أثناء انشغال سليمان بالسهر لمراقبة من ينتقده من الناشطين على «فايسبوك» و«تويتر» في محاولة لتقليد نشاط المكتب الثاني في عهد الرئيس فؤاد شهاب، أُوقف الوزير السابق ميشال سماحة. وبمعزلٍ عن الظروف ومواقف قوى 8 آذار من توقيف سماحة، لم يتردد سليمان في تبنّي خطوة فرع المعلومات واستقبال العميد الراحل وسام الحسن، واللواء أشرف ريفي. ومن حينها، يجلس سليمان قرب هاتفه بانتظار أن يظهر على شاشته رقم سوري، علّه الرئيس بشّار الأسد.
لم يقف تبدّل الرئيس عند هذا الحد، تارةً «يقوّص» على سلاح حزب الله، وأخرى يتغنّى أمام لبنان المغترب بانتصارات المقاومة. ترنّح الرئيس لعامَين كامِلين. وفي أحد تصريحاته من ساحل العاج قبل أسبوعين، تحدّث عن ضرورة البحث عن «تسوية عادلة للملف الفلسطيني». ومع أن أي حل عادل للملفّ الفلسطيني لا يمكن أن يتمّ من دون عودة كامل فلسطين واللاجئين إليها، إلّا أن موقف سليمان (في حال كان مدروساً) يؤكّد خروجه عن مقترحات قمّة بيروت عام 2002، التي أخذت جدلاً واسعاً حول هذه النقطة، واستطاع الموقفان اللبناني والسوري فرض ربط أي تسوية مع الاحتلال الاسرائيلي بشرط عودة اللاجئين، واقترابه من الرؤية الأميركية للحلّ. كونيللي مرّة جديدة.
يقول أكثر من مصدر في 8 آذار إن سليمان أدرك أن التسوية التي أتت به إلى رئاسة الجمهورية قد سقطت، وبالتالي بدأ يلعب «صولد»، مع أميركا طبعاً: «راقب مواقفه بعد كلّ زيارة لكونيللي إلى قصر بعبدا». يحار هؤلاء، يمكن لسليمان أن يعود مارونيّاً كما يفعل أغلب الرؤساء مع اقتراب نهاية العهد، لكن لماذا؟
التمديد لولاية جديدة يبدو صعباً للغاية، «إن لم يكن ضرباً من الخيال». ثمّ إن تكوين «حزب الرئيس» لما بعد الخروج من سدّة الرئاسة، «لا يكون بإنشاء حزب العائلة كما يفعل مع صهره وسام بارودي في الكازينو ومحطات أنطوان سليمان وكسارات شقيقته لودي». ومن يرد أن يكون «مارونيّاً» لا يخرج عن «الإجماع المسيحي» أقلّه في قانون الانتخابات.
كلمة الرئيس في الدوحة أمس لا جديد فيها. هو موقف لبنان الرسمي، مع تأكيده على اتفاق «أفرقاء هيئة الحوار اللبناني على تجنيب لبنان التداعيات السلبية الممكنة للأزمة السورية وتحييده عن سياسة المحاور». كما أشار إلى أن تجنيب لبنان التداعيات السورية «يتطلب من الجهات السورية المتعارضة أن تمتنع عن استعمال لبنان وأراضيه للاعمال العسكرية».
يعلم سليمان، كما القاصي والداني، أن قرار الجامعة العربية منح مقعد سوريا للمعارضة السورية يخالف ميثاق الجامعة في أمرين أساسييّن: عدم تدخل الجامعة بشؤون دولة عضو فيها، وضرورة أن تكون القرارات بالإجماع. لا هم، لا يستطيع لبنان مواجهة العرب. لكنّ سليمان حين استمع إلى كلمة رئيس «الائتلاف الوطني السوري» أحمد معاذ الخطيب في الجامعة العربية صار طرفاً في أحد المحاور مثل 8 و 14 آذار، وربما في «محور قطر».
وكي لا ننسى، قامت الدنيا ولم تقعد حين دعا وزير الخارجية اللبناني عدنان منصور الجامعة إلى إعادة المقعد إلى سوريا والحوار معها، والى وقف العنف على الأراضي السورية. وهو، بالمناسبة، ليس موقفاً جديداً. هو موقف لبنان الرسمي الذي كرّره منصور نفسه أكثر من مرّتين، وقاله سليمان قبلاً. اعترض سليمان والرئيس المستقيل نجيب ميقاتي يومها على كلام منصور، لغاية في نفس يعقوب.
وحده النائب عاصم قانصو سأل الرئيس اللبناني أن ينسحب من الجلسة. في حين خرج سليمان أمس من داء « فصام المواقف»، وأسقط، عن سابق إصرارٍ وتصميم، صيغة النّأي بالنفس التي ابتدعها لبنان حيال الأزمة السورية.