قبل أن تبدأ جولتها الأولى أمس، لمحت حرارة التوافق على الرئيس المكلف تمام سلام ـــ قبل أن يُكلّف ـــ إلى استعداد الأفرقاء المتناحرين للتفاهم معه على مواصفات الحكومة الجديدة، رغم أن المواقف المسبقة منها توحي سلفاً بمهمة صعبة تنتظره. وخلافاً لأسلافه فؤاد السنيورة وسعد الحريري ونجيب ميقاتي، لم يُنظر إلى تكليفه على أنه منبثق من أكثرية فريق فرضت تسميته، بل تساقطت الحواجز تباعاً من طريقه.
لم يكن المرشح الأول لتيّار المستقبل كاللواء أشرف ريفي، ولا المرشح الأول لرئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط كنجيب ميقاتي، ولم يكن لقوى 8 آذار مرشح ما دام الخيار سنّياً أولاً. أخرج الخياران النقيضان ميقاتي وريفي بعضهما بعضاً ــــ وقد مثّل الرجلان قضية واحدة كانت أحد أسباب استقالة حكومة تصريف الأعمال ــــ وظهر اسم سلام قبل أن تتكوّن من حوله غالبية مرجحة.
لا أحد يعرف حتى الآن الأب الأول لترشيح سلام ما دام جنبلاط طرح نفسه الأب الفعلي لتسميته عندما قرّر التخلي عن ميقاتي ورفض القبول بريفي. سرعان ما أمسى مرشح تيّار المستقبل وجنبلاط، ثم قال ذلك رئيس المجلس نبيه برّي وحزب الله، وانضم إليهم جميعاً أخيراً الرئيس ميشال عون. فإذا سلام مرشح الجميع بلا استثناء. الذين سمّوه لرئيس الجمهورية ميشال سليمان، والذين أيدوه من دون أن يقصدوا قصر بعبدا كي لا يجتمعوا بسليمان كعون والنائب سليمان فرنجية.
لتكليف سلام امتياز هو الأول. كانت المرة الأولى يصيب الغموض تسمية الرئيس المكلف حتى الساعات القليلة التي سبقت الجولة الأولى مذ وُضعت المادة 53 موضع التنفيذ لأول مرة أيضاً مع حكومة الرئيس عمر كرامي عام 1990. لم يهبط اسمه بالقوة كما في الحقبة السورية ثم عَلِمَ النواب به متأخرين كالرئيس رشيد الصلح، ولا نُظِرَ إليه كمنجد من الأزمة الاقتصادية كالرئيس رفيق الحريري مع حكومته الأولى عام 1992. لم يطبع تكليفه الاستفزاز والتحدي كما عند استبعاد الحريري الأب عامي 1998 و2004، ولا كذلك طريقة عودته إلى السلطة عام 2000، ولا أيضاً الاستفزاز والتحدي الذي رافق التنافس الحاد بين الحريري الابن وميقاتي عام 2011. لا يأتي تكليف سلام على أنقاض اغتيال سياسي كما مع السنيورة عام 2005 ثم معه مجدداً بعد 7 أيار 2008. لم يكن ثمرة مصالحة الأضداد الإقليميين السعودية وسوريا اللذين ربطا تكليف الحريري الابن بمصالحته نظام الرئيس بشار الأسد.
يكمن الامتياز الخاص لسلام في أن قوى 8 و14 آذار وجنبلاط ــــ وبات الأخير ينعت كما دائماً بنفسه ــــ توافقوا على تكليفه من غير أن تعرف أي حكومة سيُؤلف، ومن دون أن يُتفق سلفاً على مواصفاتها ومهماتها، ومن غير أن يرسل أي من هؤلاء من الآن إشارات إيجابية إلى إمكان تخليهم عن شروطهم المتصلبة عند أوان التأليف. لأول مرة كان التكليف مستقلاً عن التأليف، رغم أن الآلية الدستورية لكل منهما مكمّلة للأخرى، ولا يدخل في سلة تسوية متفق عليها.
كان ثمة امتياز من نوع آخر بعيد من قوى 8 و14 آذار وجنبلاط، قرن تكليف سلام بالحنين إلى بيت والده الرئيس صائب سلام الذي قال على أثر اعتذاره عن عدم تأليف الحكومة في تشرين الأول 1974 أنه طلّق الحكم ثلاثاً. ثم كرّر العبارة عام 1975 قبيل تأليف حكومة الرئيس رشيد كرامي. وراء اعتذار سلام الأب عن عدم العودة إلى السرايا خلفاً لحكومة الرئيس تقيّ الدين الصلح سببان مهمان من بين أسباب أخرى:
ـــ الرفض العلني لسوريا عندما عدّته ـــ وكان أضحى رئيساً مكلفاً ــــ مصدر اضطراب في العلاقات اللبنانية ـــ العربية، فرفع لواء معارضته آنذاك كمال جنبلاط ممتنعاً عن المشاركة في الاستشارات النيابية وعن الانضمام في حكومته، فضاعف من العراقيل. بعد 39 عاماً يصبح جنبلاط الابن العرّاب المعلن لسلام الابن في العودة البيت إلى السرايا.
ـــ رفضه توزير ابن رئيس الجمهورية النائب طوني فرنجية اعتقاداً منه بأنه لا يصحّ أن يكون ابن الرئيس وزيراً في ولاية والده، ونظر إلى توزيره على أنه سابقة خطيرة مسيئة إلى العهد وصورة رئيسه. وكانت حكومتا الرئيسين أمين الحافظ وتقي الدين الصلح وزّرتاه، ثم وزّره أيضاً بعد اعتذار سلام الرئيس رشيد الصلح عندما ترأس الحكومة.
لا يقلل ذلك عقبات تحملها عناوين التأليف تنتظر الرئيس المكلف:
أولاها، مع أن المهمة المعلنة لحكومته إجراء الانتخابات النيابية تستقيل على أثرها عملاً بما ينصّ عليه الدستور، إلا أن قرار إجراء الانتخابات والتوافق المسبق على القانون الذي تجرى وفقاً لأحكامه ليس بالتأكيد بين يدي رئيس الحكومة، ولا الحكومة، ولا بينها ورئيس الجمهورية. كان كذلك أحد أسباب استقالة حكومة ميقاتي. بمرور الوقت، في ظلّ تناقض المواقف من القانون وتعذّر التفاهم على إجراء الانتخابات حتى 20 حزيران، تصبح حكومة سلام على أبواب انتخابات رئاسة الجمهورية.
ثانيتها، لأن الرئيس المكلف سياسي بامتياز، لا يسعه إلا تأليف حكومة سياسية بالملفات العالقة من الحكومات الثلاث المتعاقبة. وقد يكون هذا الخيار أكبر الشرور التي يواجهها التأليف في مرحلة لاحقة بسبب تناقض مواقف 8 و14 آذار من مواصفات حكومته: الأولون يريدونها سياسية، والأخيرون حكومة محايدة تكتفي بمهمة الانتخابات النيابية. ما يريده سلام «حكومة إعلان بعبدا» فقط، بشقيه المحلي والإقليمي.
ثالثتها، ينتظر الرئيس المكلف أيضاً الخلاف على حصص المشاركة في الحكومة. وقد يختبر هذه المرة ما لم يسبقه إليه أسلافه المتعاقبون. وضع السنيورة والحريري التوزير السنّي في تيّار المستقبل، ووضع ميقاتي التوزير السنّي في حصته هو وحلفائه الطرابلسيين بعدما رفض تيّار المستقبل المشاركة. أما مع سلام، فللتوزير السنّي حصتان: حصة رئيس الحكومة وحصة تيّار المستقبل. لا تتناقضان بالضرورة، بيد أنهما في نهاية المطاف حصتان ترجمة أولى لعودة التعدّدية السياسية إلى بيروت بعدما افتقدتها مذ وضع الحريري الأب بين يديه زعامتي السلطة والشارع.
رابعتها، إصرار جنبلاط على حكومة وحدة وطنية يشاركه فيها الأفرقاء جميعاً، وقرنه هذا الشرط بمشاركته في الحكومة الجديدة ومنحها الثقة. وهو بذلك يقف على طرفي نقيض من حلفائه في ترشيح سلام، قوى 14 آذار التي قصرت مهمة الحكومة الجديدة على الانتخابات.