جاذبية المقاهي المعنية تكمن في اسمها وشهرتها التي قد تدفع إلى الاطمئنان إلى نوعية المنتج المقدم الذي يفترض أن يحترم أبسط المعايير الصحية العالمية، في ظل الفضائح التي يعاني منها القطاع الغذائي في لبنان. بالمختصر: يدفع الزبون مبالغ كبيرة... ليمرض!
كشفت دراسة صادرة عن مؤسسة "Action On Sugar" البريطانية أن بعض المشروبات التي تقدمها سلسلة مقاهٍ ومطاعم عالمية كـ "ستاربكس" و"كوستا كافيه" و"ماكدونالدز" تحتوي على معدلات سكر تزيد بأكثر من ثلاثة أضعاف الحد الأقصى الذي يمكن جسدَ الإنسان تحمّله يومياً، ما قد يسبب البدانة ويقود بالتالي إلى الإصابة بداء السكري.
حللت الدراسة محتوى 131 مشروباً منكّهاً تقدمها مقاهٍ ومطاعم عالمية، وبيّنت المعطيات أن 98% من هذه المشروبات تحتوي على "مستويات مفرطة من السكر" في كل كوب، فيما معدلات السكر في 35% منها تساوي ــــ أو تتخطى في شكل كبير ــــ المعدلات التي تحويها عبوة واحدة من الـ "كوكاكولا".
لكن لماذا المقارنة مع المشروب الغازي الشهير تحديداً؟ يلفت الصيدلي الدكتور روني الزعني، المتخصص في الصيدلة السريرية، إلى أن عبوة "كوكاكولا" تحتوي على ما مقداره تسع ملاعق صغيرة من السكر، وهي، بالتالي، تؤخذ كمؤشر سيئ.
وإذا كانت نسبة السكر في الـ "كوكاكولا" تُعَدّ، من النواحي الطبية والعلمية، خطرة، فما بالكم في أن أحد المشروبات التي يقدمها "ستاربكس" يحتوي على ما يساوي 25 ملعقة من السكر! نظرة سريعة على الجدول تظهر أن من أصل المشروبات العشرة الأكثر احتواءً على السكر، استحوذ "ستاربكس" على حصة الأسد مع 7 مشروبات تراوح معدلات السكر فيها بين 15 و25 ملعقة صغيرة. "كوستا كافيه"، من جهته، احتل مرتبتين من ضمن العشر الأوائل مع مشروبين يحتويان على ما يساوي 14 و20 ملعقة صغيرة من السكر. ومن بين ثمانية مقاهٍ ومطاعم شملها التقرير، تهيمن المشروبات التي يقدمها "ستاربكس" و"كوستا كافيه" على الغالبية العظمى من الجدول مع 89 مشروباً من أصل 131. أما "ماكدونالدز"، فكانت حصته ضمن القائمة 8 مشروبات تتراوح نسب السكر فيها بين 5 و11 ملعقة.
لكن لماذا هذه الكميات الهائلة من السكر؟ وهل الأمر مقصود عن سابق تصور وتصميم؟
استهلاك مريض السكري من الفئة الأولى لبعض هذه المنتجات قد يدخله في غيبوبة


إدمان... حتى الغيبوبة

يؤكد الدكتور جورج زغيب، المتخصص في التغذية البشرية، أن السكر يؤدي إلى الإدمان، وبالتالي إن زيادة معدلات السكر في هذه المشروبات تدفع إلى استهلاكها بنحو أكبر، وهذا من مصلحة الشركات. المسألة ليست بسيطة أبداً، إذ إنها قد تدخل المستهلك في حلقة مفرغة لا مخرج منها إلا إلى... المستشفى. ويلفت زغيب إلى أن هذا النوع من السكر يدخل إلى الجسم مباشرةً ويمتصه الجهاز الهضمي بسرعة، ما يؤدي إلى ارتفاع معدلات السكر في الدم بنحو كبير. ولمحاربة هذه الكميات، يفرز الجسم كميات ضخمة من الإنسولين لإعادة معدلات السكر الى حدودها الطبيعية. ومن ثم، بعد الارتفاع يعاني الجسد هبوطاً في السكر، ما يؤدي إلى جوع كبير وإلى الرغبة في استهلاك السكر سريعاً، الأمر الذي قد ينتج عنه طلب المشروب مجدداً!
إذاً، المعادلة سهلة: تدفع، تشرب، تجوع، تدفع، تشرب... الجسد يخزن السكر والشركات تربح.
بحسب منظمة القلب الأميركية، إن الرجل من عمر 18 سنة وما فوق يمكنه استهلاك 9 ملاعق صغيرة من السكر كحد أقصى يومياً، أي عبوة "كوكاكولا". أما المرأة فيمكنها استهلاك حتى 6 ملاعق صغيرة. ومن المهم الإشارة إلى أن الحديث عن 6 و9 ملاعق صغيرة يومياً لا يقتصر فقط على السكر السريع الذي يدخل إلى الجسم مباشرةً، بل يشمل أيضاً السكر المستهلك بطريقة غير مباشرة، سواء من خلال الخبز أو الخضار... وهذا على مدار 24 ساعة. فكيف إذا كان الاستهلاك يتعدى الكمية الأقصى التي يسمح بها بثلاثة أضعاف وخلال دقائق معدودات؟
نقيب الأطباء السابق والمختص بأمراض السكري الدكتور ماريو عون، رأى أن الأرقام خطيرة جداً. ففي حال استهلاك مريض مصاب بالسكري من الفئة الأولى لهذه الكميات من السكر، بشكل متكرر إن لم يكن على علم بالمكونات، فإنه معرض فجأةً لخطر الدخول في غيبوبة. أما المصابون بالسكري من الفئة الثانية، وهم يشكلون نحو 90% من إجمالي المصابين، فإن كميات كهذه، بحسب عون، يمكن أن تسرّع في تبيان السكري لديهم، خاصة إذا استخدمت هذه المشروبات بنحو متكرر وإدماني.
الغريب كان تعاطي القائمة بأعمال منظمة الصحة العالمية في بيروت الدكتورة إليسار راضي، مع الأمر. فرغم عدم علمها بالتقرير، لم تملك حشرية السؤال والاستفسار عن الموضوع، مكتفية بالإشارة إلى أنه بما أن التقرير لم يصدر عن المنظمة، فلا تعليق لديها.

المقاهي... صمت وجواب خجول

تواصلنا مع كل من "ستاربكس" و"كوستا كافيه" و"ماكدونالدز" في لبنان للوقوف على رأيهم في الموضوع والاستفسار عن بعض المعطيات، وبعد إبداء الاستعداد للإجابة عن أي تساؤلات، جوبهنا بصمت مطبق من قبل كل من «ستاربكس» و«ماكدونالدز». فيما أحالنا المسؤولون في «كوستا كافيه» على الإدارة المركزية في بريطانيا، حيث أكد «جون شو» أن «كوستا كافيه يأخذ مسألة التوازن الغذائي في الطعام والشراب على محمل الجد، وقد اتخذنا إجراءات مهمة للحدّ من معدلات السكر في منتجاتنا...".
ورغم تمنّع "ستاربكس" في لبنان عن الإجابة، إلا أن الناطق باسم السلسلة العالمية أكد لمعدي الدراسة "التزام الشركة مع بداية هذا العام بالحدّ من معدلات السكر في المشروبات بمعدل 25% حتى عام 2020". الجواب يؤكد المؤكد، ولكنه لا يزيل المخاوف، بل يزيدها. ففي عملية حسابية بسيطة، يعني تقليص 25% من السكر من مشروب يحتوي على ما يعادل 25 ملعقة صغيرة، أن هذا المشروب لا يزال يحتوي على 18,5 ملعقة، أي ضعف المعدلات العالمية المسموح بها!

السكري يتمدد في لبنان

الاتحاد الدولي لداء السكري أعلن العام الماضي أن «عدد الأشخاص المتأثرين بهذا المرض في لبنان وصل إلى 12.2% من البالغين بين 20 و79 سنة، ما يترجم إلى 464200 شخص في هذه الفئة العمرية. ويعتقد أنه لا يُشخَّص السكري لدى نحو 41.17% من هؤلاء الأشخاص». وبحسب مدير البرنامج الوطني للسكري في وزارة الصحة الدكتور أكرم أشتي، هناك نوعان من مرض السكري. الأول يتصف بنقص كامل في هورمون الإنسولين ويصيب عادة من هم دون سن 30 ــــ 35، فيما النوع الثاني يتصف بنقص جزئي بهرمون الإنسولين ويصيب من هم فوق سن الـ 35. والخطير أن النوع الثاني من السكري بدأ يظهر عند من هم دون سن 30، ليصيب من هم في العشرينيات، وصولاً إلى من هم في 18 و 15 من العمر! ورغم أن أعداد المصابين في هذه السن المبكرة ليست كبيرة، إلا أنها مؤشر خطير جداً.
وزير الصحة وائل أبو فاعور، أبدى اهتماماً بالمسألة وطلب نسخة عن الدراسة. أما رئيس جمعية حماية المستهلك زهير برو، فأعلن أنه لكون المؤسسات المعنية شركات عالمية، فمن البديهي أن تكون منتجاتها هي عينها في كل فروعها حول العالم، مع بعض التغييرات الطفيفة. وعن الوسائل الرقابية والردعية، يشدد برو على أن كل المنتجات المعلبة يجب أن تتضمن إعلاناً لمحتوياتها وبالنسب الدقيقة، أما إذا كان المنتج "فلت"، أي غير معلب، فالمراسيم التطبيقية لم تصدر بعد، وبالتالي البائع غير ملزم إبلاغك بالمحتوى. والمشروبات في هذه الحالة لكونها تقدم في أكواب، تُعَدّ "فلت".
الشركات المعنية لم تنف التقرير ولا الأرقام. المسألة خطرة ولا تحتمل أي تهاون، يبدو أن أزمة الغذاء لا تقتصر على لبنان، بل إن أرقى الشركات العالمية لا تعير المعايير الصحية العالمية أي اهتمام. منذ عام 1980 وحتى الآن تضاعفت نسب البدانة في العالم، وفي الوقت عينه شهدت هذه الفترة توسعاً خيالياً للكثير من هذه المقاهي، حتى بات الواحد منها يملك عشرات الآلاف من الفروع في العالم. هل للمسألة إرتباط بالإدمان؟