كلّ سنة تمرّ، نقول إنّها كانت الأبشع في تاريخ الصحافة، لنعود فنكتشف أنّنا لم نبلغ بعد أحطّ دركات البشاعة. ما معنى إذاً، ما جدوى، أن ندافع اليوم عن «حريّة الصحافة»؟ هناك طبعاً، بالدرجة الأولى واجب الوقوف (والتحرّك) بشراسة، ومن دون إلتباس أو تنميق أو مساومة أو مراعاة لـ «الأصدقاء»، أو ممالأة لـ«أولياء النعمة»، ضدّ كل أشكال العنف والقمع التي تمارس بحق الصحافيين في عالمنا العربي.
واجب الاحتجاج الصاخب والفعّال ضدّ الجلّاد، يكون بغضّ النظر عن القواسم المشتركة التي تجمعنا بالضحيّة، أو مهما اتسعت الهوّة التي تفرّقنا عنها. من يفعل ذلك اليوم؟ كيف تتشكّل القوى التي تدافع عن الحريّة، وتضغط من أجل فرض احترامها، من خارج الفولكلور اللفظي الاستعراضي، أو الخبث السياسي، وبمعزل عن الخلفيّات الأيديولوجيّة والاصطفافات الدنيئة الضيّقة؟
بهذا المعنى، يدافع عن حريّة الصحافة من يخاطر بأمنه وامتيازاته ولقمة عيشه وعلاقاته الاجتماعيّة، كاسراً الاجماع الرخو كي يفضح ويكشف ويدين ويتّهم، حتّى لو أغضب الجميع، الحلفاء قبل الخصوم… يدافع عن حريّة الصحافة حقّاً، من يعمل بإمكاناته الصغيرة على ايقاف تلك الآلة الجهنّميّة الضخمة التي يسلّطها أصحاب السلطة والمال والنفوذ والمصالح الكبرى، على أي فرد يحاول فضح طغيانهم، وأكاذيبهم الأيديولوجيّة، وفسادهم، وممارساتهم الاستغلاليّة، وتَلاعبهم بحقوق الناس وحياتها. الكلام الباقي يمكن اعتباره جعجعة ونفاقاً، تجارة مربحة باسم «الحريّة»، لا تخدمها بطبيعة الحال، بل تسيء إليها وتحوّلها ديكوراً لطيفاً ونظيفاً ومغرياً. هذا الديكور تجري من تحته أنهار الدم، وتعتمل خلفه الزلازل والانهيارات القادمة، المطلوب تعطيل أي قدرة لدى الرأي العام على رؤيتها مسبقاً ومحاولة تفاديها. الخديعة الديموقراطيّة أبشع أشكال القمع والاستلاب والاعتداء على الحريّة.
هناك خطر يفتك بالصحافيين في زمن الثورات المسروقة، لا يقلّ بشاعة عن القتل والتعذيب المعنوي والجسدي والتنكيل والاضطهاد والاهانة: إنّه الاحتواء والتدجين! والأمثلة كثيرة في هذا «الربيع» الدامي، المفعم بأشكال الدعم والرعاية. القضاء على الصحافة الحرّة لم يعد يعتمد على العنف والبطش فقط، بل إنّه يمرّ اليوم بتحويلنا أبواقاً في جوقات منظّمة، تحت نير كابوس عملاق يجمع بين كرم المانحين، وطوباويّة «الثوريّين»، ومساومات دعاة التغيير، إضافة إلى العصبيّات والأصوليّات المختلفة. إذا كان صحيحاً أن الصحافي العربي لا يستطيع دائماً أن يختار المؤسسة التي يعمل فيها، فإن بوسعه ألا يزايد على الجلاد وألا يداري القاتل. قد لا يملك كل صحافي ترف أن يشهد للحقّ، متحمّلاً كلفة قول المحظور وكشف المسكوت عنه، لكن بوسعه ألا يساهم في التزوير والتضليل واللعب على الغرائز والأهواء، والتجارة بالعصبيّات. وألا يندفع فخوراً جذِلاً داخل القطيع، من دون أن يطرح على نفسه وعلى الآخرين الأسئلة الحقيقيّة، الأسئلة النقديّة المزعجة.
في هذه المناسبة العالميّة، وقبل ثلاثة أيّام من ذكرى شهداء الصحافة اللبنانيّة، دعونا نتذكّر أن كلّ ما يمكن أن يجمع الأصوات المختلفة على أرضيّة واحدة لحماية المهنة واحترامها، والتأكيد على مناقبيّتها ومواثيقها، خلافاً للمنطق العشائري، ومنطق الانقسام الأهلي، هو دفاع حقيقي عن حريّة الصحافة. إنّها خطوة لا بدّ منها باتجاه القوانين المدنيّة والمؤسسات الديموقراطيّة التي تحمي الحريّة وتضمنها. في انتظار ذلك، لا خيار أمامنا سوى المقاومة!

يمكنكم متابعة بيار أبي صعب عبر تويتر | PierreABISAAB@