قد يكون تيار المستقبل وحزب الله، ومعهما الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، أمس، مرتاحين الى المشهد الذي خلص إليه المسيحيون. ففي عز الحماوة السنية ــــ الشيعية، التي جعلت حزب الله يقبل تسمية الرئيس تمام سلام بتكليف سعودي من أجل سحب فتيل الفتنة، وفي خضم الحرب السورية المستعرة التي جعلت المستقبل ينتعش لبنانياً، وفي ذهنه مخاوف من انفلات الصراع السني ــــ الشيعي لبنانياً وامتداده عربياً، جاء المسيحيون ليسحبوا بساط الفتنة من تحت أرجل السنة والشيعة والدروز وينقلوها الى داخل بيوتهم.
فالمواجهة المسيحية أقل كلفة عربياً وإقليمياً لأنها لا يمكن أن يكون لها ارتدادات إلا «بين المدفون وكفرشيما». ومهما بلغت حدّتها، فلن تتحول الى مسلحة لأكثر من سبب، ومنها ما يتعلق بحضور الجيش اللبناني ودوره.
وها هو أول ثمن يدفعه المسيحيون بسبب الفراغ المرتقب، وسيدفعون بقية الثمن لاحقاً مع الذهاب نحو مؤتمر تأسيسي يعيد إنتاج النظام اللبناني بتسوية مغايرة للطائف.
خلال الساعات الأخيرة، بدا المسيحيون كأنهم يعيدون إنتاج حروبهم الذاتية، ويستنسخون انقساماتهم القاتلة، مرة جديدة، وكأن السنوات التي مرت لم تكن إلا بهدف تعميق الخلافات بدل تجاوزها. لقد نسي المسيحيون، أو حاولوا أن يتناسوا، حرب الجبل وقاموا بمصالحة مع النائب وليد جنبلاط، رغم أنه ارتد عليهم أكثر من مرة، لكنهم لم ينسوا ما فعلته حروبهم الداخلية بهم. فبدأوا، وفي شكل أكثر حدة مما جرى منذ عام 2005 وحتى اليوم، يعيدون قتل بعضهم البعض إعلامياً وسياسياً، من أجل قانون الانتخاب.
في المبدأ، ليس بإمكان أي لبناني أو مسيحي أن يكون الى جانب المشروع الأرثوذكسي لأسباب تتعلق بظروف صياغته في الوقت الحقيقي الذي صيغ فيه، ولأسباب تتعلق برفض التقوقع المسيحي. وهذا الكلام قيل يوم كان القادة الموارنة يعلنون من بكركي، برئاسة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، موافقتهم على مشروع يعيد المسيحيين أعواماً الى الوراء. وفي المبدأ أيضاً، يجب أن تكون إطاحة الأرثوذكسي مثار فخر لأي من الذين عملوا على ذلك.
هذا في المبدأ، لكن ما الذي جعل سقوط المشروع الأرثوذكسي يرتد إحباطاً في الشارع المسيحي الشعبي الذي لم يفهم لماذا ضحت القوات اللبنانية بـ 64 نائباً مسيحياً من أجل وحدة قوى 14 آذار؟ ولماذا ضحت القوات بمشروع اعترفت بنفسها في بكركي، وفي أدبياتها، بأنه يؤمن مصلحة المسيحيين من أجل السير في اتفاق مع تيار المستقبل، الذي ذكّر قياديون فيه زملاءهم القواتيين بأن عدد المسيحيين في لبنان لم يعد يخوّلهم بأن يكونوا أصحاب قرار.
ولم يفهم المسيحيون ما الذي جعل من سقوط المشروع سلاحاً بيد العماد ميشال عون يستخدمه في حرب تصفها القوات بأنها حرب غرائز، وقد توصل نتائجها الى تغيير النظام السياسي الحالي؟ وكيف يمكن إطاحة الأرثوذكسي أن تثير مجدداً النعرات المسيحية وتعيد إشعال حرب الإلغاء ونكء الجراح المسيحية الداخلية، وتفتح مجدداً ملفات لا يبدو أنها أغلقت بتاتاً.
ثمة أخطاء ارتكبت على طريق إنضاج طبخة الأرثوذكسي، ومن ثم إطاحته، وأولها خطأ بكركي، التي ساندت الأرثوذكسي فجلبت على نفسها امتعاض رئيس الجمهورية، ومن ثم دعمت المختلط، لتعود وتتبرأ منه. فماذا سيقول سيد بكركي الموجود في جولة اغترابية، ورعيته تتقاتل في ما بينها، وبماذا سينصح المغتربين وهم يسمعون القصف الإعلامي للقوات والتيار الوطني في حرب بلا هوادة؟ وماذا يقول في حبريته التي بدأها بمصالحة مسيحية وباتفاق على مشروع انتخابي واحد، وما كادت تمر سنتان عليها حتى انفجر الخلاف المسيحي، فيما يتنافس الأساقفة على الاصطفاف مع هذا الفريق أو ذاك؟
لقد فتحت بكركي مبكراً مسار الانتخابات منذ عام 2011 بلقاء الأقطاب الموارنة، ومن ثم بلجنة متابعة بحثت في مشاريع القوانين، منها مشروع حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، وغيره من المشاريع التي لم يحظ أحدها بموافقة الجميع سوى الأرثوذكسي. لكن الطرفين المعنيين وقعا في خطئه فارتد عليهما. فالقوات وقفت في وجه المستقبل ودارت حرب إعلامية بينهما على خلفية سيرها بمشروع طائفي. عادى جعجع المسيحيين المستقلين لأنهم رفضوا ما يسير به، وعادى قوى 14 آذار وحلفاءه المسيحيين فيها. وتنقل بين مشاريع عدة: الستين دائرة ثم الخمسين دائرة، ومن ثم العودة الى الأرثوذكسي، فتبني المختلط مع تعديلات ومن دون تعديلات. وأيّد تارة مشروع الرئيس نبيه بري وتارة أخرى مشروعاً مستوحى من مشروع رئيس المجلس النيابي. لذا كان بإمكان إطاحة الأرثوذكسي أن تمر بسلام لو كانت ظروف الإسقاط طبيعية وقبل أن يستهلك كل هذا السجال المسيحي الداخلي، ولو لم تكن لها علاقة بتوزيع الحصص (ما أثار امتعاض حزب الكتائب) والمقاعد بين القوات والمستقبل الذي لم يوفر سلاحاً إعلامياً وسياسياً إلا استخدمه للوم جعجع بسبب الأرثوذكسي. ثمة أسئلة طرحت أمس في التداول: هل يمكن أن يكون المستقبل تجاوز كل المآخذ التي كان قد سجلها على القوات لأنها أطاحت الأرثوذكسي؟ وهل كان الأفضل لجعجع أن يقفز فوق الأرثوذكسي ويسير بمشروعه الخاص، فلا يغرق في متاهة القوانين وحقوق المسيحيين، التي باتت مهددة مع اقتراب استحقاق الفراغ؟
في المقابل، تمسك عون بالأرثوذكسي، من دون أي بديل، ولم يقبل مناقشة أي اقتراح آخر. حتى إنه رفض رسم سيناريوات بديلة لما يمكن أن يقبل عليه البلد إذا ما سقط الأرثوذكسي، أو التفاوض على خيارات بعيدة عن مشروع طائفي بحت. بالنسبة إليه، كان ثمة استحقاق وحيد وهو طرح المشروع على التصويت أولاً وآخراً، لتنكشف النوايا. وحين طرح النسبية مع لبنان دائرة واحدة، كان يعرف أنه يسير بمشروعين متناقضين تماماً، وأنه يطرح مشروعاً بلا أفق. في وقت تداولت فيه أوساطه مشروع الصوت الواحد ليعود ويندثر مجدداً، قبل تعليق الأرثوذكسي للبحث عن بديل، لكنه ظل متمسكاً به. لم يكشف يوماً أن لديه خطة «باء» يستند إليها في معركة كان يعرف سلفاً أنها خاسرة. إلا إذا كان الهدف منها أولاً وآخراً جر رئيس حزب القوات سمير جعجع الى المشهد الذي رأيناه أمس، وتحويل خسارة الأرثوذكسي الى انتصار انتخابي.
أمس، هناك من قال «لو جرت الانتخابات اليوم، سيكرر عون تسونامي عام 2005». وهناك من قال إن جعجع كرس نفسه زعيماً مسيحياً ووطنياً، وحقق ربحاً صافياً على عون حين استدرجه مرات الى ملعبه. وحين اقتنع الجميع، بمن فيهم بعض حلفائه، بأنه يفاوض مع عون على تقاسم حصص المسيحيين النيابية، إذا به يؤكد ثباته مع حلفائه في قوى 14 آذار في مشروع قدم فيه المستقبل كل التنازلات الممكنة من أجل بقاء الحلف الواحد في وجه الضغط الإيراني.
في ميزان الطرفين أن كلاً منهما ربح حين انتهى الأرثوذكسي. وفي ميزان المسيحيين أنهم خسروا حين سار الفريقان الأساسيان بالأرثوذكسي لأنه كان بداية الطريق نحو الهاوية. وفي النهاية، ماذا ينفع المسيحيين إذا ربح عون وجعجع ظرفياً، كل من وجهة نظره، وخسروا إجراء الانتخابات وتشكيل حكومة وتفادي الفراغ في مؤسسة الجيش وإجراء انتخابات رئاسية، والأخطر الذهاب الى تغيير في بنية النظام؟