"بتُّ مع ولديّ ثلاث ليالي باردة في العراء تحت إحدى الشاحنات المركونة في محيط مركز الأمن العام في نقطة المصنع"، تقول حسناء الهاربة مع ولديها من معارك ريف درعا إلى أحد المخيمات العشوائية في البقاع الأوسط. وتضيف: "مُنعنا من الدخول لعدم حيازتنا الأوراق اللازمة. طلب أحد الصرّافين من شقيقي الموجود في لبنان، منذ أربع سنوات، 300 دولار مقابل "تأجيرنا" ثلاثة آلاف دولار لخمس دقائق فقط، هي الفترة التي يستغرقها موظّف الأمن العام لعدّها. وكان علينا دفع 220 دولاراً بدل حجز غرفتين في فندق. في النهاية دخلنا تهريباً مقابل 250 دولاراً فقط".عمر التهريب على الحدود اللبنانية ــ السورية من عمر هذه الحدود. كاد عمل المهرّبين ينتفي مع موجات النزوح التي اجتاحت لبنان عقب اندلاع الحرب السورية. لكن تشديد إجراءات الأمن العام على الحدود لضبط دخول النازحين أعاد تنشيط شبكات تهريب البشر، وفرّخ شبكات جديدة. بحسب مصادر أمنية، نحو 70 شخصاً من أبناء المنطقة العاطلين من العمل يشكلون 13 شبكة مترابطة، ويهرّبون يومياً، في الاتجاهين، "نحو 300 شخص مقابل مبالغ مالية تبدأ من 100 دولار وقد تصل الى 1000 دولار للشخص الواحد، مقابل قطع المنطقة الفاصلة بين البلدين عبر معابر جبلية في خراجَي بلدتي مجدل عنجر والصويرة".
يتوزّع العاملون في هذه الشبكات المهمات، بين رصد "الطريدة" أمام مبنى الأمن العام، وبين دليل طريق وسائق وآخرين لتأمين الطريق. تقول حسناء: "اقترب أحد الأشخاص من شقيقي على الجانب اللبناني من الحدود واتفق معه على إدخالنا. كلّف سمساراً التواصل معي على هاتفي السوري. جاء شاب في العشرين من العمر، وبعدما تأكد من أننا قطعنا معبر جديدة يابوس السوري نظامياً، طلب منا الانتظار في مقهى مقابل الأمن العام إلى أن تغيب الشمس. عند السابعة مساءً، طلب منّا السير في اتجاه الشاحنات. سلمنا الحقائب لشخص آخر وضعها في سيارته، ومشينا الى ساحة الشاحنات. هناك وجدت رجلين وامرأة فلسطينية مع أطفالها الثلاثة ينتظرون الساعة الصفر. حوالى الثامنة والنصف مساءً، تلقّى الشاب اتصالاً وطلب منّا السير وراءه. قطعنا مسافة صعوداً في جبل وسرنا نحو نصف ساعة في اتجاه منطقة سكنية. هناك كانت سيارة في انتظارنا نقلتنا الى الطريق الرئيسية، حيث كان شقيقي في انتظاري".
"تسعيرة" التهريب تتفاوت بحسب وضع الراغب في قطع الحدود. "الهاربون" من التجنيد الاحتياطي، ممن يريدون تفادي نقطتي الحدود، قد يكونون "الأعلى سعراً"، ويتطلب تهريبهم "تعاوناً وتنسيقاً" بين المهربين على طرفي الحدود. أحد هؤلاء، ويدعى محمود، يقول لـ"الأخبار": "دفعت للمهرب السوري 350 دولاراً كي أتخطّى حواجز الأمن السورية، و300 دولار للمهرب اللبناني لتخطّي الأمن العام اللبناني". ويضيف: "قطعنا نحو كيلومترين ليلاً لتخطّي الأمن السوري في جديدة يابوس. بعدها اتصل المهرّب السوري بزميل له في المصنع لمساعدتي على تجاوز نقطة الحدود اللبنانية. عندما أبلغه أنني هارب من التجنيد ولم أعبر الحدود السورية رسمياً، طلب 500 دولار، وبعد إلحاح ومفاوضات خفّض المبلغ الى 300. مكثت مع أربعة أشخاص آخرين حوالى 5 ساعات في منطقة مظلمة وخالية. وفي الوقت المحدد وصل شاب ومعه فتاة وشابان. طلب منهم الاستراحة نصف ساعة، ثم انطلقنا سيراً في منطقة جبلية لنحو 700 متر. وصلنا إلى أطراف بلدة، عرفت في ما بعد أنها الصويرة. هناك، نقلتنا سيارة الى أحد المنازل حيث مكثنا حتى الصباح، قبل أن ننتقل الى الطريق الرئيسي".
"عملنا إنساني. نساعد الهاربين من الموت من النساء والاطفال"، و"كمان اللي هربانين من الخدمة العسكرية ومن الاحتياط والإجباري"، يقول سهيل العامل في التهريب لـ"الأخبار". يشرح الشاب العشريني: "بدأت هذا العمل منذ ثلاث سنوات. كنت أعمل في الصرافة وبيع تذاكر التأمين للسيارات القادمة الى لبنان أمام مبنى الأمن العام". تشديد الإجراءات الأمنية حوّله "صائداً" للميسورين من القادمين. "كنت أعلم عناصر الأمن العام بهؤلاء، فتتعقّد معاملات دخولهم، ليجري بعدها ابتزازهم بمبالغ تصل أحياناً الى 500 دولار، لكنهم لم يعطوني من الجمل أذنه، لذلك بدأت العمل على حسابي".
يؤكّد أن أكثر من مئة شخص يستفيدون من هذه "المهنة"، بين وسيط ودليل وسائق سيارة. ويضيف: "تهريب من دون تعاون مع الأجهزة ما بيمشي. هناك عناصر يتصلون بنا ليؤمنوا الطريق مقابل مبلغ معين". ويتابع مبتسماً: "في عناصر وضباط يهربون أشخاصاً في سياراتهم مقابل مبالغ كبيرة تصل الى 10 آلاف دولار. نحن نهرّب المشحرين"، لافتاً الى اتفاق بين المهربين على "تسعيرة موحّدة". ويعزو ارتفاع المبالغ التي يتقاضونها، رغم قصر المسافة، إلى أن "الشغلة تحتاج الى مصاريف، وشبكة علاقات واسعة مع مهربين سوريين، وإلى أكثر من ثلاثة هواتف وأجرة نقل. وأحياناً نشتري الطريق من رجال الأمن، وهذا له كلفة كبيرة. كذلك فإن هناك مصاريف قضائية أثناء توقيف شباب يعملون معي".
ينفي سهيل أن يكون من بين من يُهرِّبهم عناصر من تنظيمات إرهابية، لكنه يردف: "شو بعرفني إذا إرهابي أو إنسان عادي؟ أكثر الذين أدخلهم هم من يعجزون عن تأمين كفيل أو حجز فندقي، بعدما يمرون على الأمن العام السوري ولديهم قسائم. والبعض الآخر يكون هارباً من الخدمة العسكرية، أو يريد الدخول الى سوريا والعودة منها من دون أوراق حتى لا تشطبه منظمة الامم المتحدة من سجلاتها. أما السلاح والبضائع فلا نعمل بها". ويقدّر عدد من يعبرون يومياً في الاتجاهين بمئتي شخص، "وعندما تشتد الاوضاع في سوريا يتضاعف العدد".




كلما أُقفل منفذ فُتح آخر!

مصدر أمني مطّلع أكد لـ"الأخبار" أن عمليات التهريب تزايدت منذ اتخاذ مديرية الأمن العام إجراءاتها للحد من تدفق النازحين السوريين الى لبنان، موضحاً أن الأحكام القضائية التخفيفية على المهربين، التي لا تتجاوز شهراً، وارتفاع أعداد الراغبين في العبور بطريقة غير شرعية، شجعا على توسع دائرة شبكات التهريب. ولفت الى أن "80% من السوريين الموجودين في لبنان تحولوا الى مخالفين. من يدخل خلسة يتحول الى مخالف ولا يعتبره القضاء متسللاً، وبالتالي، لا يسري عليه قانون الترحيل بسبب الاوضاع الأمنية في سوريا. بعد إلقاء القبض على المتسللين يخرجون بعد أربعة أيام، على أن تُسوّى أوضاعهم خلال 15 يوماً". وأشار الى أن "أخطر ما في الأمر تهريب إرهابيين، لأننا خلال التحقيقات مع موقوفين تبين أن هناك تعاوناً بين مهرّبين ومزوّرين يؤمنون قسائم سورية ولبنانية مختومة لتسهيل انتقال المُهرَّبين على الحواجز اللبنانية، خاصة الفارين من الخدمة ومن ليست لديهم أوراق ثبوتية"، موضحاً أنه "تم ضبط شبكتي تزوير في بلدة الصويرة أفرادها لبنانيون وسوريون، وقبل أسبوع أيضاً ألقي القبض على 35 سورياً، بينهم أطفال ونساء وشباب وعجز، في منزل أحد المهرّبين في الصويرة، وأحيلوا الى القضاء".
وشدد المصدر على أنه "لا يمكن أن نزرع عناصر على طول الحدود لمنع التهريب. هناك أكثر من منفذ، وكلما أقفلنا واحداً فُتح آخر، لأن مساحة الحدود المفتوحة عند السلسلة الشرقية بين البلدين في محيط المعبر الرسمي طويلة، وهذا ما فتح شهية المهرّبين لاستخدام منفذين، أحدهما من الجهة الشرقية الشمالية في خراج بلدة مجدل عنجر، والثاني من الجهة الجنوبية الغربية في خراج بلدة الصويرة".