ليس الكذب من صفات اللواء أشرف ريفي. وهو لم يخفِ يوماً حقيقة موقفه: «نحن نتاج 14 آذار». قالها بفخر غير مرة وهو يرتدي البزة العسكرية مديراً عاماً لقوى الأمن الداخلي. يوم أمس، كان يتحدّث بأريحية. فما قاله عن «قادة المحاور» في طرابلس ليس طارئاً على قاموسه. كان يردده دوماً في مجالسه الخاصة. في لقاءاته مع الإعلاميين خلف الكاميرا وبعيداً عن آلة التسجيل، او في عشائه اليومي في مكتبه السابق في «المديرية». هو الراعي الرسمي، لكن غير الحصري، للمسلحين الذين لم يتوقفوا منذ العام 2008 عن إطلاق النار في صدر مدينتهم. يرفع قدر أحدهم، ثم يُنزله بـ«شحطة قلم». كان سمير الحسن (قائد سابق لمجموعة مسلحة في المدينة) «رفيقَ» ريفي. ترك سمير تيار المستقبل واقترب من الرئيس نجيب ميقاتي ثم حزب الله، فنبش له اللواء ملفاً من أيام الحرب الأهلية، وهجّره من طرابلس. وكان بلال دقماق ينطق باسم «اللواء أشرف». وبعدما تقارب الرئيس سعد الحريري مع النظام السوري عام 2009، استفاق دقماق ليجد نفسه خلف قضبان نظارة مخفر في طرابلس، بأمر من اللواء.
كان ريفي حاكم طرابلس في الظل. العرف العسكري، وبعض القانون، منعاه من إخراج ما يُضمره إلى الضوء. وعلى سيرة القوانين، ليس ريفي ممن يتمسّكون بها. أدرك حجم الدعم السياسي الذي حظي به عندما كان يرأس مؤسسة تطبيق القانون، فأحلّ لنفسه الخروج عن النصوص متى اقتضت المصلحة ذلك. والمصلحة هنا يقدّرها بنفسه (بمعاونة اللواء الشهيد وسام الحسن)، ثم يقنع بها سعد الحريري. والمصلحة أيضاً ليست دوماً «وطنية» كما يحلو للمسؤولين الرسميين القول. لم يتوانَ يوماً عن استخدام الـ«نحن» الطائفية، او «نحن» السياسية. واحياناً، لمصلحة شخصية صرف. بنى شعبيته في طرابلس لبنة لبنة، تماماً كما الأبنية المخالفة التي تحظى بغض نظره. بيده تُشَرّع أبواب السجون لمن ينالون الرضى. وباسمه تُرفَع المداميك على الأملاك البحرية. يمكن الجزم بأن ريفي هو المسؤول الأمني الوحيد الذي يجيب على كل اتصال يرده: من بائع الكعك كما من الوزير وسائق التاكسي والمطلوب للعدالة والصحافي. ودوماً: «اهلا يا بيك».
ما قاله أمس ليس طارئاً على قاموسه. الرجل قائد لقادة المحاور. أراد أن يُشهر موقعه الفعلي بعد التقاعد، فرفع السقف إلى حيث لا يجرؤ الآخرون من سياسيي عاصمة الشمال. تقوم نظريته على أن المزايدة على المتطرفين تسحب البساط من تحت أقدامهم. هنا يفوته أن كلامه وكلام غيره من مسؤولي تيار المستقبل المزايد على «المتطرفين»، يدفع الأخيرين إلى رفع سقفهم من جديد، مع ما يعنيه ذلك من جر طرابلس برمتها إلى الخطاب «المتطرف»، لأن المزايدة لن تتوقف. لكن هدف ريفي لا يقتصر على محاولة لملمة الشارع من أيدي المتشددين. فالرجل يرسم في طرابلس حدود إمارته السياسية. لا مكان بعد اليوم لأصحاب الخطاب المزدوج، من يدفعون المال للمسلحين ليلاً ويتبرأون منهم نهاراً. ريفي مع المسلحين، ليلاً ونهاراً. «قادة المحاور هم ابناء المدينة الذين يدافعون عنها، ونحن نفخر بأولادنا على المحاور». بدا كمن يقول لهؤلاء: انا الأجدر بتمثيلكم سياسياً. وهذه هي الرسالة التي أراد إيصالها إلى كل من يعنيهم الأمر: عليكم أن تفاوضوني أنا لوقف إطلاق النار في طرابلس.
قبل أقل من شهرين، كان ريفي لا يزال المدير العام لقوى الأمن الداخلي. كان لاعباً بين كثر في الساحة الطرابلسية. أراد أمس أن يُعلن أنه صار اللاعب الأول بين متساوين: نجيب ميقاتي، محمد كبارة، وسالم الرافعي وغيرهم. لا يجد الرجل نفسه مطالَباً بحفظ جميل ميقاتي الذي استقال لأجله. فحتى قبل الاستقالة الشهيرة، وعندما سمع السفير السعودي من رئيس الحكومة الطرابلسي العبارة الشهيرة «نبقى أنا وأشرف أو نرحل انا وأشرف»، كان ريفي يقول: «نجيب لا يفعل ذلك لأجلي. موقفه هذا لأنه يريد العودة إلى منزله».
في كلام ريفي التقديسي لسلاح الشوارع في طرابلس، أسقط الرجل عن نفسه وعن النهج السياسي الذي «أنتجه» آخر أجزاء ورقة التوت المسماة «مشروع الدولة». في مقابلته مع تلفزيون الجديد، حاول التشديد على هذا «المشروع»، فخرجت عبارة من فمه كزلة فرويدية: «الدويلة هي منقذنا الأخير». بهذه الكلمات افتتح ريفي حياته السياسية. ومن على السقف الذي رسمه أمس بدأ مسيرته، فإلى أين يمكن أن يصل؟ ربما وجب على بعض من يهمسون في أذنه أن يذكّروه بأن السياسة لا تقوم على إحراق كل الجسور.