يرتبط مسرح يعقوب الشدراوي (1934 ـ 2013) بقوة الطاقة والمقدرة على تجديد الطاقة واستيعاب معطيات العصر واللحظة. هذا مفهوم أول عند الشدراوي الملتصق بجمهوره وعصره. بقي ممتلكاً طاقته، طاقة بعمر الشباب، ورؤية لا تزال في صباها. هذا ليس رداً على الكلام المنشور في الصحف اللبنانية عن الفئات العمرية التي دفعت الكبار الى الاحتجاب لأنّهم لم يستطيعوا أن يبدعوا مسرحاً بلا ممثلين.
معاصر وحيوي، هذا أكيد. قارئ في النصوص. مفتق نصوص بإنسانية عالية تخفّف من سطوة الأكاديمية في مشهده المسرحي، سواء اعتمد نصاً كلاسيكياً أو معاصراً، أو نصاً تقع كتابته في المسافة الممتدة بين الكلاسيكية والمعاصرة. إنّنا أمام رجل أقام حواريته الشهيرة بين نفسه وذاته. لم يلبث أن عمّر معتقده على هذه الحوارية. عمّم المعتقد في معالجات ومواقف تشظّت في اتجاهات ثقافية، بنت حضور المخرج في مسرحيات تطرح إشكالات وإشكاليات، تعمر حضورها بروح شعرية خالصة، صافية، بقوة الشعر وبقوة عالم الشعر، حيث وجد الشدراوي أنّ الشعر وحده يملك حريته وقوته الحقيقية.
لن يوضع الشدراوي في هالة ستانيسلافسكي وحده. ذلك أنّه ابن الشراكة الحضارية والثقافية، بينه وبين ماير خولد في الاستديو الشهير القائم في بدايات القرن الماضي. كل كتابة تقدس هبوطه في مدينة ستانيسلافسكي وحدها، متعجلة أو مستسهلة أو غير عارفة بتجربته. لن ينسى أحد بداياته البعيدة من الوعظ والإرشاد والتوجيه والتبشير. هذا رجل ضد الدعوة، حتى في المسرحية الدعوية «نزهة ريفية غير مرخص بها».
انفجرت بيروت بالأصولية عام ١٩٨٢ إثر انسحاب الجيش الإسرائيلي. عندها، حشد الحزب الشيوعي اللبناني أسئلته في عيده المحاط بالهزيمة والقراءة النقدية للهزيمة ضمن لقاء فنانين ومثقفين، سلّمهم الى يعقوب الشدراوي الأيديولوجي والـ«أنتي أيديولوجي» معاً. وقف الشدراوي وقتها في وجه محاولات تغيير صورة المدينة وهويتها، وقفز في وجه الهزيمة والديكتاتورية الجديدة في عسكرتاريا العدوان الإسرائيلي والاحتلال. نقطة مركزية في حياته. لم يسخف المفهوم الدعوي ولم ينخرط فيه. هذا دأبه أن يراجع حقيقة الأشياء وجذريتها. تعمق في ذلك، منذ «مذكرات مجنون». حوّل نص الكاتب الروسي غوغول الى معالجة لدور المسرح القديم بمستوى منهجي، حيوي ومنتج. إمكانات ممثل مطلقة وقوة وغزارة فوق خشبة ضاجة بحضور الفلسفة والفكر والأدب. لم يبدُ هنا ابن الطبيعة. لم يرد الشدراوي أن تظهر الطبيعة كمعلّم أول، تتلقفه في أبسط دروس المعرفة الأولى. وضع الرغبة وقوة الرغبة والقوة في مقدمة الاجتهادات، السائرة في طريق اكتساب مهنة الثقافة.
ضع القراءة في مقدمة حياة الكاتب والممثل والمخرج. سفير مسرح الاتحاد السوفياتي بأبهى صوره في لبنان. قراءة الرغبة، قراءة المتعة، المعرفة والخبرة والسلوك والمعنى والشكل والرؤية. كثف ذلك في «أعرب ما يلي». جاء بنصوص متفرقة من شعراء متفرقين، إلا على مفهوم الحداثة. أخذ من أدونيس، ومحمود درويش، وأنسي الحاج، ومحمد الماغوط، وسعد الله ونوس وبنى عليها ما يناسب الهزيمة العربية المدوية عام ١٩٦٧. أوجد النصوص في شبكة متساوية ومتعادلة مبنية على رؤية تركيبية، شعرية، لا شاعرية، في مدى من التاريخ والجغرافيا. هكذا هو، دائماً. ابن الحاجات الضرورية في فضاء ثقافي متعدد نصاً وبناءً مسرحياً. لذا، تبقى كل قراءة بغير هذا المعنى والحجم ناقصة عن إدراك ثراء هذا المسرحي وقيمته.
الثقافة عنده أمضى أسلحة العصر وأكثرها تدميراً. ولكل مسرحية شكلها. كل مسرحية له كانت حدثاً في حياة بيروت والعالم العربي من «المارسييز العربي» الى «الطرطور» الملعوبة في مدينة يقف على أبوابها شارون، ويقطع الماء والكهرباء عن ناسها بهدف إخضاعها. استعمل «المسكاراد» في المسرحية، مخبوزة بالكوميديا ديلارتي كي يمنح الناس قدرة على صناعة الحياة، في مدينة منذورة للفراغ والخراب ولا تزال. أخذ جبران (جبران والقاعدة) ثم ميخائيل نعيمة بهدف الكشف عن الاختلاف، لا الخلاف، وتحقيقه، بين أعضاء الرابطة القلمية.
علم كثيرون في النهاية أنّ المهم في المسرح هو الإطار الإنساني الشامل والمشترك. عنده، كل شيء مباح. المسرح عنده ليس أداة أو وسيلة فقط، بل منصة جمالات أشبه بماراتون ثقافي فني دموي، يكسح الفواصل والفوارق بين البشر، ولا يضع النقاط على الحروف لأنّه لا يبشر وليس ليس ساعي بريد. هكذا، بقي مسرحه مكتظاً بالدلالات. «يا اسكندرية بحرك عجايب» لأسامة العارف، ابنة روح الثقافة الجدلية في سلوكات تفصيلية، جزئية، لا إجرائية. إنّه ضد الإجراء الثقافي، اليومي، لأنّ الثقافة ليست لساناً فقط، بل تشكيل وصناعة ومسارات شائكة ومعقدة وملتبسة.
منطق لافت، من ابن الثقافة الشاملة، الطائرة، بين المسرح والنحت والتشكيل والموسيقى. نحات جسد، يعقوب الشدراوي. نحت حضور الممثلين في «نزهة ريفية» (أنا منهم)، كما نحت مشهد الإعدام، بعينين متضافرتين، عينه وعين غويا، إذ استعار مشهد الإعدام من غويا كي يبني عليه مشهده.
المسرح عنده يستحوذ، بيد أنّه ليس وحشاً أعمى. حوّل الرجل علاقته بالمسرح الى علاقة أشبه بعلاقته بالبيت. صحيح أنّه سند حضور مسرحه الى الحياة والواقع، إلا أنّه جعل من ذلك منصة تؤثر الأحاسيس على الموضوعات العتيقة، بما يستثير أفكاراً ومشاعر وأفعالاً مناسبة، غالباً ما تجيء لا شعورية وغير محددة الأسباب في التعامل معها، إلا عند الشدراوي حيث على الممثل أن يستحضر رد الفعل المناسب، بواسطة جسده وإحساسه ومخيلته لإحياء الموضوع المسرحي كأنّه حقيقة، ما يفرض عليه أن يعرف ما يقوم به ولماذا. الممثل ربّ مسرحه. مسرح الممثل أولاً. مسرحه هو لأنّه ممثل. في فضاء لعبه: العقلانية في مقابل السخرية. الواقعية في مقابل الخيال. المدرسة في مقابل المنهج. الحياة في مقابل كل شيء. يعقوب الشدراوي هو حياة مسرحه، هو كل شيء فيه. بلا الشدراوي، نخسر تجربة درامية، طليعية، لا تسعها اللقطات السريعة، على ما هي عليه الآن.