لم يترك يعقوب الشدراوي أديباً إلا وولج بحر أدبه بحثاً عن المرجان. المرجان هو بالنسبة إليه زاد المسرح، والمسرح هو «انعكاس للحياة» لكنّه «حياة مغايرة بعض الشيء... مقطّرة. الحياة على المسرح تنتصر دائماً على الموت» بحسب الشدراوي في محاضرة أمام «جمعية متخرجي الاتحاد السوفياتي» عام 1985. باكورة أعماله «كل سهرة خريفية» لإيفا بايتشيف عرضها على المسرح الروسي قبل عودته إلى لبنان، ليتناول في «أعرب ما يلي» خمسة نصوص لخمسة أدباء هم: أدونيس، وأنسي الحاج، وجورج شحادة، وسعدالله ونّوس ومحمود درويش.
كان الشدراوي لا يترك النصّ لحاله بل يتدخل وفقاً لرؤيته الاخراجية «لا عرض مسرحياً من دون مادة أدبية كتبها المؤلف. الفنان خلاق. لكن العرض على الخشبة هو شرعية الحياة. لذلك نحن في المسرح علينا أن نجعل من سقط المتاع جمالاً، تماماً كما يرسم الرسام طبيعته الميتة» (محاضرة في طرابلس 1986). كان الشدراوي يطلب إلينا النظر إلى الاشياء التي نضعها على الخشبة (الجدران، النوافذ، الاحجار... ) إنها عند اعتلاء الخشبة تصبح بعيدة عن الحياة الواقعية. وكرت سبحة الشدراوي ليقدم: «الاعماق» (مكسيم غوركي)، «سمكة السلور» (ادوار أمين البستاني)، «مذكرات مجنون» (غوغول)، «مغامرة رأس المملوك جابر» (سعد الله ونوس)، «المهرج» (محمد الماغوط)، «الأمير الاحمر» (مارون عبود). في عام 1974، قدّم «موسم الهجرة إلى الشمال» الذي كان عمله الأخير قبل اندلاع الحرب اللبنانية عام 1975 التي قدم في مستهلها مسرحية «المارسييز العربي» لمحمد الماغوط وكانت من بطولة أنطوان كرباج.
بعد تلك المرحلة، اهتم الشدراوي في تدريس مادة المسرح في «معهد الفنون الجميلة» في الجامعة اللبنانية إلى أن استقرت الاوضاع نسبياً، فقدم مسرحية ميخائيل نعيمة «سبعون» عام 1978 من إنتاج اتحاد الكتاب اللبنانيين الذي أنتج له أيضاً مسرحية «جبران والقاعدة» عام 1981 في «الجامعة اللبنانية ــ الاميركية». عام 1983، انتقل الشدراوي إلى مسرح الـ«اورلي» حيث قدم «الطرطور» عن نص «الفرافير» ليوسف إدريس ولعب بطولتها أحمد الزين ونقولا دانيال.
عام 1984 قدم عملاً ضخماً على مسرح الـ«بيكاديللي» في منطقة الحمرا حمل عنوان «نزهة ريفية غير مرخص بها» وتوالت الاعمال بعدما تابع دراسته في روسيا وحصل على الدكتوراه. تأثر الشدراوي كثيراً بمسرح ستانيسلافسكي الذي يعتمد على أداء الممثل من الداخل «كم نحن بحاجة إلى لحظة صمت عميق، هناك على الخشبة ممثل صامت لا يتكلم فيما يتكلم الآخرون ولا نلحظ غير صمته. يتغير وجهه بطريقة ملحوظة عند كل جملة يتفوه بها زميله. يجعلك تتأثر لأنه يمثل بحياء شديد من دون مؤثرات أو عرض ذاتي، كأنّه يختبئ عنّا، لأنّه ليس فلاناً بل هو الشخصية التي يؤدي دورها». لكن مَن يراقب أعمال الشدراوي يدرك أنّ مسرحه كوّن مدرسة خاصة تمزج مدارس عديدة، والخيط الذي يربط بينها هو «نظرية الجمال في المسرح». ورغم اهتمامه الكبير بالممثل، إلا أنّ الممثل لا يظهر «كالنجم الأوحد» في مسرحه. كان يقول لنا ــ نحن تلاميذه ــ إنّ العرض المسرحي يشبه العمارة. الممثل هو من أعمدة هذه العمارة، لكن المتفرج يهتم بشكل تلك العمارة وجماليتها ككل.
مسرح الشدراوي يحمل رسائل كثيرة. أعمال له لم تر النور بسبب بعض المواقف التي لم تكن تتلاءم مع مراحل سياسية معينة، لكن همّه الدائم هو الانسان: «المسرح الحقيقي الذي عاش واستمر منذ سوفوكليس، هو المسرح الذي التزم التعبير عن قضايا الانسان وعصره» (من مداخلة له في ندوة لـ«الجبهة الديمقراطية» ــ شباط/ فبراير 1981). وقال لـ«المحرر» عام 1975: «أنا لا أعلم أين سترسو مسيرة المسرح الملتزم، وهي ما هي عليه من تخبط في مشاكل وصعاب ومتطلبات مادية تزداد وتكبر لتصبح كابوساً يهدد مباشرة وجود المسرح عندنا».
اليوم، لا نريد تقبّل فكرة الرحيل. سنمنحك إجازة لتقوم بـ«نزهتك الريفية». لن نذرف الدمع بل ستبقى إبتسامتك وبريق عينيك وكلماتك العبقرية مرتسمة في أذهاننا. سننحني إجلالاً أمام ضريح خشبة المسرح في لبنان، ونسير رويداً رويداً في موكب مهيب إلى مثوى أعمالك العظيمة.