مودّعاً ضيوفه أمام مدخل شقّته في بيروت (حسام مشيمش، ٢٠١١)

يعقوب الشدراوي اختار أن يبقى بعيداً عن الأضواء. فضّل أن يجلس في الظل، ليراقب العالم بصورة أفضل، ويعيد صياغته على خشبة المسرح. وضع نفسه في قافلة الكلمات والمناخات التي ابتكرها، في الشخصيات التي خلقها، في ديناميّة الأجساد، وشعريّة الصمت، وكل ما يتشكّل منه عالمه الجامع بين صرامة الرؤيا ونشوة الاحتفال.
أعطى ما يملك لممثليه، من خلالهم نسج علاقته معنا، يغلب عليها التواطؤ وتغلّفها الأسرار. بقي لغزاً، علينا أن نجمع كل أعماله وكتاباته كي نقترب منه ونحاول أن نفهمه ولو قليلاً. لا تكتمل صورة يعقوب الشدراوي من دون شهادات أصدقائه وزملائه ورفاقه. لقد وزّع نفسه عليهم على مرّ السنوات،

فإذا أردنا أن نعرفه، علينا أن نجمع نثاره لدى الذين شاركوه الأحلام الأولى، أو عملوا معه في قاعات التمارين الباردة، أو عرفوه في إحدى مراحل حياته بين موسكو وبيروت. لبعض هؤلاء نعطي الكلمة هنا، كي يرووا لنا الحكاية. لكلّ «يعقوبه» طبعاً، لكن شيئاً فشيئاً، تتشكّل أمامنا فصول تلك المسرحيّة الفريدة القادرة على أن تبشّر بالسعادة والعدالة وتدعو إلى عالم أرحم وأكثر عدالة… مسرحية بوسعها أن تتغلّب على الموت

منير أبو دبس


تعرّفت إلى يعقوب الشدراوي حين كان في بداياته يوم جاء من الشمال إلى بيروت. ارتاد مدرستي (مدرسة المسرح الحديث) لفترة، قبل أن يسافر إلى موسكو لدراسة المسرح. لكنّنا بقينا على تواصل. لدى عودته، حين كان ممنوعاً على ممثّلي مدرستنا المشاركة خارج إطار المدرسة، قمت باستثناء، وجعلت أعضاء المدرسة كلّها أي أنطوان كرباج، ورضا، وريمون جبارة يؤدون بطولة مسرحية يعقوب «أعرب ما يلي». من جهتي، تولّيت عملية الإضاءة. لقد استقبلناه كرفيق كبير لدى عودته. بعد عودتي إلى لبنان، جاء ابنه ليتابع محترف المسرح الذي أدرته في الفريكة. أفكّر الآن بابنه وأتقدّم بتعازيّ الحارة. كان يعقوب رجلاً صادقاً مع نفسه وما يفعله، وكنت أحبّه كثيراً. حين كنت أعمل في المسرح في الستينيات والسبعينيات، لم يكن يعقوب هنا، بل في موسكو. وحين عاد إلى لبنان وبعد تقديم «أعرب ما يلي»، غادرت إلى فرنسا حيث بقيت لسنوات. كان يعقوب يحب اللغة، وفي الوقت عينه يحبّ الاشتغال على حضور الممثل على الخشبة. لا شك في أنّ ذلك يعود إلى تأثره بالمدرسة الروسية. كان ميالاً إلى الانزواء. لم يكن نهماً للاعتراف والأضواء. أذكر يوم تكريمه بمبادرة من الأب مارون عطا الله في منطقة بكفيا قبل سنوات. أراد عطا الله تكريم كل روّاد الخشبة اللبنانية. وأنا قدّمت الاحتفال يومها. الكلّ كان موجوداً إلا يعقوب الذي قال للأب عطا الله: «لم أعمل منذ وقت طويل، وأحسّ أنّني ابتعدت عن المسرح». كان تواضعه عظيماً على عكس ما نراه عند المسرحيين عادة.

نضال الأشقر


نقيُّ المسرح اللبناني ورائده يعقوب الشدراوي. مات يعقوب الشدراوي وعينه علينا وعلى المسرح، عين حنونة وعين لا تريد أن تفارق المسرح ولو حتى للذهاب الى الجنة. ولو استطاع ولو كان عنده الدعم، لعمل حتى الرمق الأخير. كان يملك المفاتيح، والأسرار والحزازير والتقنيات والأرابسكات وبهلوانات العالم يسخّرها للمسرح، كان يملك القدرة على تحويل أي نصّ الى مزحة مبهجة، بشكل طبيعي وسريع كأنّه ساحر.
إنّه فعلاً ساحر المسرح اللبناني ورائده، وليس أحد رواده. هو رائده في الحداثة والشعبية، في الأصالة المتجذرة والحذاقة البصرية، لكنه مات ولم يحقق ما أراد. مات ولم يعطنا من جواهره الدفينة في أعماقه إلا القليل القليل. لم يكن هناك أحد يعرف قيمته الإنسانية والفنية والثقافية إلا بعض من أهل المسرح.
فبدل أن تكون كل الإمكانات المتاحة تحت تصرّفه، وبدل أن تكون لديه ميزانية خاصة يغني بها المسرح اللبناني والعربي، ظلّ يقوم ببعض المسرحيات بين وقت وآخر حسب الإمكانات الضئيلة التي توافرت له.
لم يكن هناك من يطبّل ويزمّر ليعقوب الشدراوي. كان يعمل بصمت ويخرج الى المسارح برونق ما بعده رونق، وبظرف ما بعده ظرف. في مرّة من المرات، اقتبس لي مسرحية لبريشت «الأم كوراج»، وأعطاها اسماً آخر «جميلة من مغدوشة أخت الرجال»، اقتبسها وعرّبها هو بلغته الجميلة بشكل طريف وجذّاب.
لكن انهماكي بعملي المسرحي لم يعطني فرصة القبول بهذا العمل، وبقيت المسرحية معي. ويوماً كنت أرتب أوراقي، اتصلت به وأخبرته أنّ المسرحية معي، مصححة بقلمه وقلمي وأرسلتها له منذ شهرين فقط وقلت في نفسي: أنا نادمة أنّي لم ألبِّ طلب يعقوب، فيجب أن أقوم بإخراجها ليفرح قلبه بهدية صغيرة ولو متأخرة. لكن لا يفكر واحدنا أنّها قد تكون آخر فرصة لنا، ولن نشاهد يعقوب بعد الآن، البعض الى شعبوية المسرح وضجر مشاهدته، أغفلوا أنّك من القلائل الذين درسوا المسرح في الخارج وكانت له مدرسة خاصة به. مدرسة تنويرية حديثة شعبية، مصحوبة بحرفة نادرة مجددة دوماً، بإبداع مستمر أوقف فجأة لأنّه لا مؤسسات تعرف قيمة يعقوب الشدراوي. المسرحي الجميل المبدع الصابر.
مرة، وأنا في قبرص، طلبت من يعقوب أن يزورني وطلبت منه أن يقوم بإخراج عمل كبير عن العراق القديم أردت أن أمثّل فيه. وكان العمل مفصلياً وكنا سنفتتح مهرجان «بابل». لم يتحقّق هذا المشروع حتى الآن. لو قمنا به، لكنت كسبت الكثير من يعقوب العزيز. ومرات، أردت أن يكون في «مسرح المدينة» الفائض ولو القليل من المال حتى أفرحه وأنتج له مسرحية جديدة، لكن ذلك لم يحصل.
أي خسارة خسرناها بغيابك يا يعقوب!
كان يزورني في «مسرح المدينة» دائماً ليحضر كل العروض. وعندما كنت أراه، كنت أقول في نفسي «الحمد لله على وجود يعقوب». يعقوب الميزان، الصادق، المحب المنفتح على الشباب. عندما كرّمته في مسرح المدينة منذ أشهر قليلة فقط، شكرني العشرات من المرات. لقد فرح أنّنا نحن الفنانين نكرّمه ونحبه ونقدّره. تباً لك من حياة صعبة. كم كنت أود أن أعود وأمثّل معك يا يعقوب. كم كنت أود أن أغرف من علمك وفنك وأتعلّم منك. لقد غيّر يعقوب الشدراوي وجه المسرح اللبناني بحضوره المختلف والمتألق وأعطاه زخماً هائلاً، ولم يتوقف عطاء هذا «الأستاذ» ومحبته حتى الرمق الأخير.
وداعاً يا صديقي

جلال خوري


هذه صيغة تختصر الشدراوي من دون أن تختزله. في الآونة الأخيرة، أثناء لقاءاتنا المتكررة، كنت أمازحه وأقول له: أحسدك، لديك القدرة على تحويل أي نص إلى مشهدية، حتى كتاب الصرف والنحو. العمل على النصوص الأدبيّة هو الميزة الأبرز في مسيرة يعقوب الفنيّة، إلى جانب همّه الأساس حول نهائية ودلالات ما يجري على الخشبة مباشرة، أمام الحضور. هذه الناحية هي من خصائص المدرسة الروسية التي تأهل على يدها والتي ـــ كما يعلم الجميع ـــ تتمحور حول منهج ستانيسلافسكي تحديداً. إنها طريقة تندرج في سلسلة تاريخيّة من كبار المبدعين أهمهم سوفوكليس، ومُليار، وتشيخوف، مع العلم بأنّه في المقابل، هناك مدرسة أخرى تبرز ما يجري على الخشبة كأنه استدلال لما قد يجري على أرض الواقع، وقد يصنّف في هذه الخانة اسكيليوس، وشكسبير، وبريشت... لن يحين الوقت، وليست المناسبة لتقييم حصيلة أعمال الشدرواي، لكن ما هو جليّ منذ اليوم أنّ عطاءاته من أهم ما أفرز تاريخنا الفني المعاصر ومن أكثرها تميّزاً، مع الإشارة أيضاً إلى كونه إنساناً محبّاً، وحاراً، ومتواضعاً في أعماله كما في علاقاته مع الآخرين.

مرسيل خليفة


يعقوب، هل نسيت لملمة سنابل القمح لتعبر إلى الضفة الأخرى ولتسلّم حصادك حتى آخر حبّة من حبّات روحك؟ في جمرة الغياب في النور الشاحب، يعود شريط الأيام التي عبرت. أيطفئ هذا المساء وميض اللحظة كما تطفأ آخر ومضة في نار الغروب؟ أهي رغبة مجنونة إلى ظلال تلك الأيام؟
الزمن تغيّر يا يعقوب فوق الكلمات التي أشعلت نزهة ريفية في حمى عينيك السمراوين.
أسرار منبعثة من بياض مسرحك الصارخ تتموّج حول ألم غيابك في ارتباك مفاجئ في ذروة العنف. إني لأذكر تلك الرحلة العتيقة التي لا تكاد تغيب حتى تصحو في كابوس الليل.
يعقوب هناك في موسكو وليس بضيف كما كان في أكثر من مرة، وآخرها مهرجان ذكرى بوشكين. إنه طالب من جديد يريد نيل شهادة الدكتوراه؛ لأنه في بلادنا يبدو صعباً على المبدع أن يعيش من دون أكسسوار.
وتفرّغنا لأسبوعين كاملين في مسارح موسكو ومعاهدها وفي كل الأمكنة التي تركت في ذاكرته لونها وبريقها ومعانيها، من المطعم وكأس الفودكا وكأس الكونياك اللذيذ؛ حتى مسرح البولشوي واللقاء بأناتولي بارسوف الكوريغراف الروسي؛ إلى الصورة الحميمة في الساحة الحمراء.
الوقوف في الساحة الحمراء يجمّد الدم في العروق، وما اعتدنا هذا البرد القاسي نحن أبناء المتوسط، ويعقوب كان قد أنهى دراسته الجامعية في موسكو منذ سنين، وكان يعلم بكل تفاصيل المدينة وخاصة ساحتها الحمراء.
ــ أعرف جيداً متجراً صغيراً يبيع الشبكة الروسية أو الكلبك الروسي
مشينا نبحث عن المتجر، وما إن وصلنا وقف يعقوب. وضع نظارته، حدّق في المكان معتذراً
ــ لا تواخذني يا مرسيل، يبدو أنّي مضيّع
اكتشفنا في ما بعد أنّ هذا المتجر تحوّل من بيع عدّة الشتاء إلى بيع عدّة الصيد. وقد يكون يعقوب على حق؛ طالما ما زال يتابع دراسته قياساً بالزمن الذي عاشه قبل سنوات وعاد يلتقي بجيل آخر يدرس هناك.
في آخر لقاء في بيروت، كان صوته يمتزج برائحة الحب. الزمن يدور ويعود إلى مكانه، وليس لنا مكان نصل إليه.
صمت مليء بالانتظار. صمت متألق فوق الوجوه. ألم من ملكوت العدم. يعقوب الشدراوي، شكراً لك لأنك منحتنا القدرة الخفيّة في أشد مظاهر الحب رقة ورهافة.

نقولا دانيال


التقيت يعقوب الشدراوي للمرّة الأخيرة منذ فترة بسيطة في «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» مع روجيه عساف ومحمد دكروب. أوصلته إلى منزله. وفي طريق العودة، تحدثنا واستعدنا ذكريات أيّام زمان وهواجسه ومخاوفه على المسرح. لم نجتمع بعدها، لكن لم أنقطع عن الاتصال به للاطمئنان الى صحته، وفوجئت بخبر رحيله. نعم، فوجئت رغم علمي بوضعه الصحي. ربّما لأنّ الإنسان لا يصدق أنّ مَن يحبهم يرحلون أيضاً، ولأن «الجمرة لا تكوي إلا مطرحها»، فيعقوب الشدراوي هو «المعلّم» بالنسبة إليّ وإلى كثيرين. درست على يديه ثم زاملته، وكنا نستشير بعضنا بأمور كثيرة.
لا أدري من أين أبدأ عندما أتحدث عن يعقوب الشدراوي، لكن لا بد من المرور على أعمالي المسرحيّة الثلاثة معه «أعرب ما يلي» (1970). واكبت هذا العمل بتفاصيله لحظة بلحظة، وهو يعدّ علامة مميزة في تاريخ المسرح اللبناني، وعرّف الجمهور بمخرج طليعي، يعتمد أسلوباً لم يسبق اتباعه في العالم العربي. أتذكر كم كان فارس يواكيم متحمّساً للعمل، ومثله كان رأي النقاد والصحافيين. كتب يومها عناوين قوية من وزن «ولادة المسرح» وما شابه، كان الأمل كبيراً بانطلاقة مختلفة للمسرح. أما محطتي الثانية معه، فكانت في «الطرطور» (1983). يومها قدم العمل المسرحي الشعبي في عز الحرب الأهليّة، والمسرحية الثالثة والأخيرة كانت «بلا لعب يا ولاد» (1991). وحينما التقينا مطلع الألفية الثالثة، كان يحضّر مسرحية «الخال فانيا» لأنطوان تشيخوف، بدأ الاستعدادات والتدريبات، لكنّه توقف فجأة وقرّر عدم إكمال المشروع لأنّه شعر بأنّه لن يتمكن من تقديمه كما يخطط بعدما داهمه المرض.
ظلّ يعقوب الشدراوي مواكباً للحركة المسرحيّة حتى آخر أيامه، لأنّ المخرج والممثل حينما ينفصل وجوده عن الخشبة، يصبح في عالم آخر. هو المبدع الذي تعامل مع المسرح في كل تفاصيله من نص وسينوغرافيا وإخراج بخبرة وعمق. ومن حقه علينا ومن واجبنا أن نتعلّم من تجاربه ومن تجارب الكبار في هذا البلد، لأننا نتجه لنكون شعباً بلا ذاكرة. وغيابه جسدي فقط لأن أعماله ستظل خالدة. وهذا الكلام ليس تمجيداً بالراحلين، بل هو واقع، ويعترف الجميع بأنه «المعلم».

نبيل الحفار


يوماً وراء يوم، تتسع وتسوء حالة يتمنا. كبار فنانينا وأدبائنا ومفكرينا يرحلون عن هذا العالم التعيس ويتركوننا وراءهم وحدنا بلا سند. لقد رحل يعقوب الشدراوي مثل كثيرين من أصدقائه وزملائه هذا العام. ترى، هل فقدوا الأمل نهائياً بأيام أفضل، فمشوا آسفين على الجهود التي بذلت، لكن سدى؟ رأيت بعض مسرحياته وليس كلها، وأيقنت أن وراءها يكمن إنسان كبير بعمق فهمه للطبيعة البشرية وأسلوب مخاطبتها، بحس اختيار دقيق للمشكلات التي تؤرقه في الصميم وصياغتها فنياً في أشكال تجذب فرجتها المشاهد وتورطه في التفكير مع المؤلف والمخرج للبحث عن الطريق. لم تقدم عروضه حلولاً، لأنه لم يزعم أنه يملكها. ولم يحاول أن يتعلّم ويعلّم، بل كان يتعلم مع ممثليه ومشاهديه ويقول: «المرة القادمة إن شاء الله منكون فهمنا أكتر». التقيته مرات عدة في دمشق وبيروت والشارقة، وكنا بعض المرات رفاق سفر، إلى مهرجان أو مؤتمر. لفتني تواضعه اللامحدود، وهو الأستاذ المعروف والمخرج الشهير. لم يكن يتحدث عن نفسه أو أعماله أبداً، إلا إذا سألته. لكن الحديث لا ينقطع وهو يسأل: ماذا قرأت مؤخراً وأثار اهتمامك، أو ماذا شاهدت؟ لينفتح نقاش عميق يُستشف منه اطلاعه الواسع والمتنوع، ولا سيما في الأدب والفلسفة والسينما. وكان دائماً ينهي الحوار بقوله: «يا أخي، لازم دايماً إعرف أكتر منشان إعرف إتعامل مع الممثلين».

أحمد الزين


أول خطوة في حياتي على طريق الاحتراف، وعلى مستوى أن يتبنّاني معلم في عالم المسرح، كانت في مسرحية «المهرج» مع الراحلين الكبيرين يعقوب الشدراوي ومحمد الماغوط. ثم أخذني شوشو من الشدراوي وبقيت معه حتى توفاه الله. بعدها، كان لا بد من حركة رد الوفاء. قصدت منزل الشدراوي، قرعت الباب وانتظرت حتى فتح وجاء صوته: «أهلاً بالزين». فقلت له إنّني جئت قاصداً المسرح من جديد، طالما أنّه كان أول من رباني مسرحياً على الخط الوطني. أخذني بيدي نحو مكتبته وأخرج نص «الفرافير» ليوسف إدريس، وقال «بديش سميها «الفرافير»، لأنّ النص أعطي لي مع إمكانية التصرف»، فكانت مسرحية «الطرطور». بهذا العمل، دخلتُ أولى خطوات المسرح الأكاديمي الشعبي إذا صح التعبير. يعقوب الشدراوي مدرسة تربيت وأكرمت فيها وظلت كل المفردات الفنية التي يمكن أن أسمعها عن النجومية والحرفة في المسرح مرتبطة باسم الشدراوي. وإذا كانت الحكمة العربية تقول «مَن علّمني حرفاً كنت له عبداً»، فقد علمني صاحب هذا التاريخ الطويل حروفاً وحرّرني من العبودية وكان يزيد ثقتي بنفسي.
اشتغلت عروضاً عديدة مثل «الشهيد ابن البلد» و«الدبور»، لكنني بقيت تلميذاً مجتهداً تخرّج في مدرسة اسمها يعقوب الشدراوي.

محمد قارصلي


عرفت يعقوب الشدراوي باسم شيخ المخرجين المسرحيين العرب. هذا اللقب لم يكتسبه من الصحافة أو الإعلام، إنما أطلقه عليه المخرجون المسرحيون أنفسهم. عرّفني عليه الراحل فواز الساجر عندما كان يعقوب في موسكو يدرس المسرح. لأسباب لم يفصح عنها في ذلك الوقت، لم يكن لديه بيت أو غرفة للإقامة، عاش معي في غرفتي ثلاثة أشهر. هناك شيء غريب واستثنائي مدهش في شخصية يعقوب، فهو طفل، وحكيم، وإنسان عملي يعيش جملة من المتناقضات في الوقت نفسه. ما زلت أذكر عرضه «العتب على البصر» الذي قدمه في «مهرجان دمشق المسرحي» عام 1987. أدهشتنا قراءته الإنسانية وفهمه العميق للحرب اللبنانية التي كانت موضوع عرضه. تطورت علاقتنا لاحقاً، وأصبحنا نتعامل كمسرحيين محترفين، لنا هواجسنا وأفكارنا ومشاريعنا. بداية 2000، تعمقت علاقتي مع يعقوب كثيراً، كوني كنت أدرس المسرح في لبنان وكنا نلتقي دائماً. في أحد الأيام، زارني في الفندق الذي أقيم فيه، مقهوراً ومكسوراً، وأخبرني أنه اعتزل العمل في المسرح، ولدى سؤاله عن السبب، أخبرني حكايته والغصة تخنق صوته. عمل يعقوب أشهراً طويلة على مشروع مسرحية «الخال فانيا» للكاتب الروسي أنطون تشيخوف، بعدما اتفق مع عدد من طلابه الذين كانوا يعملون معه بالمجان. ترجم النص عن الروسية وأعدّه ليقدم بصيغة لبنانية خالصة، لكن الممول سحب دعمه من دون مبررات مقنعة. جمع يعقوب ممثليه في الصف الأول من صالة العرض، واعتلى خشبة المسرح، وقرأ لهم ملاحظاته ورؤيته عن كل شخصية كانوا سيلعبونها. وفي النهاية، اعتذر منهم جميعاً، وأخبرهم بأن العرض الذي كانوا يحلمون بتقديمه لن يرى النور. كان رجلاً في قراره اعتزال المسرح. لم تفلح محاولاتي الدائمة في جعله يعود إلى المسرح. في سنواته الأخيرة، عدل عن قراره في الاعتزال، ربما كان يفكر في أن يودع عالم المسرح الذي كان يعشقه بعمل أخير، لكن المرض العضال الذي أفقده إحدى رئتيه، أنهك جسده ولم يعد قادراً على تحمل عناء الوقوف على الخشبة. آخر مرة سمعت فيها صوته، كانت على الهاتف عندما اتصلت به لأطمئن الى صحته، أخبرني أنه يشغل عزلته ووقته بقراءة الكتب، وقطاف الزيتون. «الله يلعن البلد يللي ما بتوقف حد ولادها». كان يعقوب قامة ثقافية ومسرحية وإبداعية استثنائية، وأحد أعمدة الفكر التنويري. كل ما يجري في منطقتنا اليوم من أحداث دموية هو نتيجة طبيعية لتهميش مبدعين ومثقفين من أمثال يعقوب. رحل يعقوب بصمت، من الصعب علينا أن نجد بديلاً يملأ الفراغ الذي تركه وراءه اليوم.



يصلى عن نفس المسرحي الراحل عصر اليوم في «كاتدرائية مار يوحنا المعمدان» في زغرتا ويوارى الثرى في قريته.